خمار بمبي
"ما تقلقيش يا خديجة. انا شرحت لك الاجراءات مية مرة. يا بنت الناس ده اللي لا بيقروا ولا بيكتبوا بيسافروا كل يوم. اللي يسمعك ما يقولش دي معاها مؤهل عالي"
"انا لسه برضه خايفة يا ابو نسمة. انا عمري ما نزلت مصر في حياتي غير يوم فرح ابن عمك. ايش حال لمبن مرة واحدة"
"لمبن ايه؟ مليون مرة اقوللك اسمها لندن"
"اعذرني يا خويا حكم العادة. انا لو قلت لندن زي ما بتنطقوها كده اللي هنا في كفر البطيخ يقولوا شايفه نفسها علينا"
"المهم خللي بالك من نسمة وانتي جاية. وتقليلها في الهدوم البت ما بتبطلش كحة والبرد هنا بيخش العضم طوالي."
"حاضر يا ابو نسمة. في عينيا يا خويا. عاملة حسابي فلنة بالعدل وفلنة بالمقلوب عشان صدرها"
"باقولك ايه بلاش ابو نسمة دي. المصريين هنا خواجات ما تضحكيش حد علينا."
"سبحان الله! امال اقولك ايه؟!"
"يعني ايه تقولي لي ايه؟ اندهيلي باسمي طبعا"
"حاضر يا خويا. حاضر يا بو نسمة"
"اللهم طولك يا روح. انطقي"
"يووه بقه. حاضر يا حسين"
"عملتي ايه في كورس الانجليزي. خدتي ورقة بانك كملتيه ولا لأ"
"رحتلهم يا خويا النهاردة والمدرس مارضيش. قاللي فاضل لك تلات حصص. مع انه عارف اني مسافره. بس انا يا خويا ما سكتلوش وزعقت فيه بالانجليزي قدام السكرتيرة. اصله عامل فيها خواجة وقال ايه ما بيردش غير لو كلمناه بالانجليزي"
"وانتي بقه كلمتيه بالانجليزي؟ قلتيله ايه ان شاء الله؟"
"قلتله وير از ماي بيبر..أي وونت ماي بيبر."
"هههه جدعة يا ام نسمة. وادهالك؟"
"لأ. بس انا هاروح بكره تاني بإذن الله إن شاء الله وهاقلب الدنيا"
"ايوة يا خديجة ضروري اوي. انا عارف انك ما بتتكلميش انجليزي خالص بس مين عارف اهيه الشهادة يمكن تنفعنا هنا. اسمعي احنا طولنا اوي بس لازم اقولك على حاجة كنت هانساها".
"يوه؟ براحتنا يا خويا ما البتاع السكايبي ده بيقولوا ببلاش".
"برضه الامر ما يخلاش. ليكون فيها فلوس واحنا مش عارفين. انتي عارفه زميلتي اللي قلتلك انها في مصر في اجازة؟ هي مسافرة بكره معاكي راجعة لندن على نفس الطيارة"
"اللي اسمها أمنية؟"
"ايوة ايوة ..انا قصدت مخصوص احجز لك معاها على نفس الطيارة عشان تساعدك في الشنط وفي كل حاجة. أنا وصيتها تستناكي في المطار وما تدخلش الجوازات ولا تعمل اي اجراء قبل ما تشوفوا بعض"
"كتر خيرك يا خويا. الله يباركلك. طب وانا هاعرفها ازاي؟"
"هتعرفيها ازاي؟ معرفش اوصفهالك. يعني مالهاش ملامح معينة"
"مالهاش ملامح ازاي يا خويا من غير شر؟"
"قصدي يعني.. هي بتلبس زيك كده خمار وعباية"
"ماشاء الله. دي ملتزمة بقه"
"ملتزمة بس؟ دي ورعة جدا. اخوها من جماعة السنية ومحفظها القرأن من صغرها. عشان كده انا عايزك تقربي منها. ده غير ان أمنية بتعرف انجليزي كويس..امسكي فيها لغاية ما تسلمك ليا في مطار لندن. يللا.. لا إله إلا الله"
"مالهاش ملامح ازاي يا خويا من غير شر؟"
"قصدي يعني.. هي بتلبس زيك كده خمار وعباية"
"ماشاء الله. دي ملتزمة بقه"
"ملتزمة بس؟ دي ورعة جدا. اخوها من جماعة السنية ومحفظها القرأن من صغرها. عشان كده انا عايزك تقربي منها. ده غير ان أمنية بتعرف انجليزي كويس..امسكي فيها لغاية ما تسلمك ليا في مطار لندن. يللا.. لا إله إلا الله"
"محمد رسول الله.. مع السلامة يا ابو نسمة"
"باقولك ايه!"
"ايوة يا خويا.. معاك"
"اوعي تنسي البطتين اللي اتفقنا عليهم"
"عيب.. ده انا حاشيالك عليهم حلة محشي كرنب بايديا"
-----------------------------------------
في تمام الثانية ظهرا وفي عز الحر وصلت القافلة للمطار. قد يبدو سفر رضيعة وأمها واثنتي عشرة حقيبة حدثا عاديا لمن لا يعرف كفر البطيخ وأهل كفر البطيخ. في الواقع هو حدث جلل، استوجب الاستعانة بميكروباص وسيارتين بيجو سبعة راكب. وصلت القافلة للمطار وقد فرهد الجميع تماما من الحر والغناء والتصفيق ووصلات الزغاريد وما تخلل ذلك من ضحك وبكاء. بصعوبة انتهت خديجة من مصافحة رجال القافلة الباسمين (بيد ملفوفة بالخمار) وعناق سيداتها الباكيات وتقبيل اطفالها المنبهرين بالمطار. لفت انتباهها فتاة تنظر اليها باهتمام فحملت البنت على كتفها وتوجهت نحوها.
"إنتي امنية؟"
"ايوة. ازيك يا خديجة. ازيك يا حبيبتي ايه الشنط دي كلها. أنتي وخدة مصر كلها معاكي ولا ايه"
"ههههه. نعمل ايه بس ياختي. الحاجة هنا ارخص. بالذات اللحفة"
"لحفة؟؟ طيب تعالي يللا لنتأخر. هاتي البنت وشوفي انتي شيال. انتي لازم توزعي الشنط دي على شوية ركاب ولاد حلال كده..مش مسموحلك بكل ده لوحدك"
بحثت خديجة وسرعان ما وجدت شيالا. بينما تولى هو أمر الحقائب اخذت تسدد نظرات جانبية لهذه الامنية . أوجز حسين في وصفها فأحسن الايجاز. فأمنية تبدو تماما كبنات كفر البطيخ بل وكثيرات في القاهرة. هذه العباءة الطويلة الفضفاضة تكاد تكون الزي الرسمي في الشارع الذي يقيم فيه والدا خديجة. وهذا الخمار.. إن خديجة تمتلك واحدا مثله تماما وإن كان لونه أزرقا سماويا، ارقى في نظرها كثيرا من هذا البمبي المسخسخ الذي ترتديه الأخرى. ولكن بغض النظر عن ايهما صاحبة الذوق الارفع، إن أمنية تشبه خديجة - في الملبس على الاقل - تماما. من بعيد قد تبدوان كتوأمتين.
بعد أن انتهيتا من الاجراءات التي لعبت فيها خديجة دور المتفرج والشيال وأمنية دور المتحدث والمخلصاتي جلستا قرب بوابة الدخول للطائرة.
"يارب يهديكي يا نسمة وتنامي في الطيارة. هو السفر يا ختي كام ساعة؟"
"خمسة تقريبا. حسين ما قالكيش ولا ايه؟"
صدمها كثيرا ان تسمي هذه الغريبة زوجها باسمه الأول وبهذه البساطة.
"قاللي يا ختي بس نسيت. هو اللي عنده عيل بيفضل فيه مخ؟ عقبالك"
"ان شاء الله"
"انتي مجوزة؟"
"لأ"
"هو انتي عندك كام سنة؟"
"تسعة وعشرين"
كان الرقم اقل مما قدرت خديجة، فمحدثتها تبدو على الاقل في الخامسة والثلاثين. على كل حال هي عانس بلا جدال. هذا يفسر الكآبة والعصبية التي تنبعث عنها. انها الحسرة على قلة البخت.
"إنتي من الوايلي مش كده؟"
"وايلي ايه؟ مين اللي قال عني كده؟"
"حسين اللي قال. ليه هو الوايلي ده حتة مش كويسة؟"
"كل الناس خير وبركة. بس انا من المعادي. تلاقي حسين اتلخبط بس. يللا يللا على الطيارة. واعملي حسابك بنتك ما تطلعش نفس. الانجليز شداد اوي وما بيحبوش دوشة العيال"
"ربك بيسهلها"
"الحمد لله. دي اكيد بركة القرآن اللي حافضاه أمنية. إلا هي فين صحيح؟!"
"يارب يهديكي يا نسمة وتنامي في الطيارة. هو السفر يا ختي كام ساعة؟"
"خمسة تقريبا. حسين ما قالكيش ولا ايه؟"
صدمها كثيرا ان تسمي هذه الغريبة زوجها باسمه الأول وبهذه البساطة.
"قاللي يا ختي بس نسيت. هو اللي عنده عيل بيفضل فيه مخ؟ عقبالك"
"ان شاء الله"
"انتي مجوزة؟"
"لأ"
"هو انتي عندك كام سنة؟"
"تسعة وعشرين"
كان الرقم اقل مما قدرت خديجة، فمحدثتها تبدو على الاقل في الخامسة والثلاثين. على كل حال هي عانس بلا جدال. هذا يفسر الكآبة والعصبية التي تنبعث عنها. انها الحسرة على قلة البخت.
"إنتي من الوايلي مش كده؟"
"وايلي ايه؟ مين اللي قال عني كده؟"
"حسين اللي قال. ليه هو الوايلي ده حتة مش كويسة؟"
"كل الناس خير وبركة. بس انا من المعادي. تلاقي حسين اتلخبط بس. يللا يللا على الطيارة. واعملي حسابك بنتك ما تطلعش نفس. الانجليز شداد اوي وما بيحبوش دوشة العيال"
--------------------------------------
استجابت الاقدار لدعاء أمنية فلم تفضحها الرضيعة ولا الأم أمام الاجانب في الطائرة. فقد ظلت الأولى تَرضع والثانية تُرضع طوال الوقت تقريبا.
أتاح لها ذلك متسعا من الوقت كي تفكر في الاشكالية التي هي بصددها. فهذه الغريبة الجالسة بجوارها لا تعلم انه قدر لها أن تكون شاهدة على لحظة فارقة في تاريخ البشرية. لقد اختارت امنية هذا اليوم بالذات لتطوي صفحة الحجاب الذي اجبرت على ارتدائه وهي في الحادية عشرة. ووفقا للخطة التي وضعتها قبل شهور (والتي لن تتنازل عنها الآن لا من أجل عيون خديجة ولا من يتشدد لها) فبقدرة قادر وقبل ان تحط الطائرة في تلك البقعة الطاهرة من بريطانيا المسماة مطار هيثرو، ستتحول ال"بيج اجيبشان ماما" - كما وصفها زميل بريطاني وقح اسمه هاري ذات مرة - إلى فتاة عصرية المظهر بمعنى الكلمة.
حين سددت لها تلك الكلمات/اللكمات لم يكن مضى على وصولها لندن سوى يومين. قابلتها حينها بدهشة خالصة لا يشوبها حتى الاستياء. فهي اولا ليست "بيج" اطلاقا بل هي نفخة الخمار (الذي كثيرا ما أسرت لنفسها ان ما يربطه بالخيمة أكثر من حرف الخاء). وثانيا: انها ليست "ماما" وإن كانت فعلا تبدو أما أو حتى جدة بمعايير الانجليز عندما ترتدي الخمار.
الصدمة الحقيقية كانت ان يأتيها تعليق فج هكذا على مظهرها: ليته حمل في طياته كراهية للعنصر او الدين. كانت ستشعر عندها انها تتحمل في سبيل التزامها الديني ما تحمله المسلمون الاوائل. لكن المصيبة أنه كان مجرد سخرية من مظهرها كأنثى.
ساعتها لم يفتح الله عليها سوى بالتالي: "نصف الشعب المصري يشبهني تماما على فكرة". جاء الرد لاذعا في اقل من ثانية: "أعلم. لقد زرت مصر. لذلك اقول أنك نموذج للبيج ايجبشان ماما!"
الآن وقد حسمت أمرها وقررت أن تعيش ما بقي من حياتها إذا بخديجة تنغص عليها انطلاقتها ومن اللحظة الأولى لتلك الانطلاقة. انها ورطة حقيقية. وقد أدركت ذلك بمجرد ان طلب منها حسين مساعدة زوجته، لكن الرفض لم يكن واردا: فحسين الآن هو النجم الصاعد في العمل ومحل رضا الادارة. ومن غير المستبعد اطلاقا ان تشمله أول حركة ترقيات. هو فعليا يقوم مقام المدير في الكثير من الأحيان.
أتاح لها ذلك متسعا من الوقت كي تفكر في الاشكالية التي هي بصددها. فهذه الغريبة الجالسة بجوارها لا تعلم انه قدر لها أن تكون شاهدة على لحظة فارقة في تاريخ البشرية. لقد اختارت امنية هذا اليوم بالذات لتطوي صفحة الحجاب الذي اجبرت على ارتدائه وهي في الحادية عشرة. ووفقا للخطة التي وضعتها قبل شهور (والتي لن تتنازل عنها الآن لا من أجل عيون خديجة ولا من يتشدد لها) فبقدرة قادر وقبل ان تحط الطائرة في تلك البقعة الطاهرة من بريطانيا المسماة مطار هيثرو، ستتحول ال"بيج اجيبشان ماما" - كما وصفها زميل بريطاني وقح اسمه هاري ذات مرة - إلى فتاة عصرية المظهر بمعنى الكلمة.
حين سددت لها تلك الكلمات/اللكمات لم يكن مضى على وصولها لندن سوى يومين. قابلتها حينها بدهشة خالصة لا يشوبها حتى الاستياء. فهي اولا ليست "بيج" اطلاقا بل هي نفخة الخمار (الذي كثيرا ما أسرت لنفسها ان ما يربطه بالخيمة أكثر من حرف الخاء). وثانيا: انها ليست "ماما" وإن كانت فعلا تبدو أما أو حتى جدة بمعايير الانجليز عندما ترتدي الخمار.
الصدمة الحقيقية كانت ان يأتيها تعليق فج هكذا على مظهرها: ليته حمل في طياته كراهية للعنصر او الدين. كانت ستشعر عندها انها تتحمل في سبيل التزامها الديني ما تحمله المسلمون الاوائل. لكن المصيبة أنه كان مجرد سخرية من مظهرها كأنثى.
ساعتها لم يفتح الله عليها سوى بالتالي: "نصف الشعب المصري يشبهني تماما على فكرة". جاء الرد لاذعا في اقل من ثانية: "أعلم. لقد زرت مصر. لذلك اقول أنك نموذج للبيج ايجبشان ماما!"
الآن وقد حسمت أمرها وقررت أن تعيش ما بقي من حياتها إذا بخديجة تنغص عليها انطلاقتها ومن اللحظة الأولى لتلك الانطلاقة. انها ورطة حقيقية. وقد أدركت ذلك بمجرد ان طلب منها حسين مساعدة زوجته، لكن الرفض لم يكن واردا: فحسين الآن هو النجم الصاعد في العمل ومحل رضا الادارة. ومن غير المستبعد اطلاقا ان تشمله أول حركة ترقيات. هو فعليا يقوم مقام المدير في الكثير من الأحيان.
نظرت في الساعة وقدرت انه لم يبق على الهبوط الكثير.
ابتسمت ولفت بالكامل نحو خديجة وقالت برقة ولطف ظاهرين: "اسمعي يا خديجة"
نظرت إليها تلك الاخيرة باستغراب إذ كانت محاولاتها لاستدراج امنية لاي حديث طوال ما مضى من الرحلة قد باءت بفشل ذريع.
"انا عايزاكي تسمعي اللي هاقولهولك. انا هاقوم دلوقتي على الحمام ومش عايزاكي تستغربي لما تلاقيني راجعة قالعة الخمار".
"لا يا حبيبتي مش هاستغرب. انا برضه حسين مفطمني وقايللي اجيب معايا طرح صغيرة عشان شكلي ما يبقاش منتقد. بس انا مستحرمة اوي البس منديل الراس ده. ده الخمار سترة وحشمة يا امنية يا أختي"
"لا مش قصدي. انا قصدي اني هاشيله خالص"
جحظت عينا خديجة حتى أوشكتا على مغادرة وجهها.
"ايوة. ايوة انا هاطلع بشعري. الموضوع كبير اوي وفي حاجات هافهمك عليها على قد ما اقدر. بس مهما قلتلك مش هتفهمي الا لما تجربي بنفسك".
قامت أمنية إذن، يلاحقها الذهول سهاما من عيني خديجة. وعندما خرجت من دورة المياه بحقيبة يد قد انتفخت بما حشيت به من ملابس ألفت خديجة على نفس وضعها: العينان جاحظتان والفم فاغر.
ألقت بنفسها على المقعد وقالت ما جادت به قريحتها وهي في دورة المياه:
"سمعتي عن هجمات 11 سبتمبر يا خديجة؟"
"سبحان الله! وهو في حد ما سمعش؟ انا متعلمة على فكرة ومعايا لاسانس حقوق"
"طبعا يا حبيبتي انا ما قصدش. بصي بقه من ساعتها والمسلمبن في لندن مكروبين. الانجليز بيهاجموهم ويتعنصروا عليهم من ساعتها"
"يتعنصروا؟"
"ايوة. يعني يهاجموهم هجمات عنصرية"
"انا فاهمه. بس استغربت الكلمة شوية. بس يعني حسين ما جابليش سيرة حاجة زي كده"
"تلاقيه مش عايز يخوفك. بصي كلنا اتعرضنا لهجمات.. رجالة وستات. بس الستات اكتر بكتير عشان الحجاب بيجنن الانجليز. في سواق صومالي اتضرب في جنوب لندن. وفي واحدة ست حامل - محجبة طبعا - حدفوا عليها طوب وكانوا هيسقطوها"
"للدرجة دي؟"
"كل ده في الجرايد يا حبيبتي واسألي حسين. ده غير الشتايم اللي بتسمعيها طول ما نتي ماشية. بس الشتايم مش مشكلة ياريت تيجي على قد كده. المهم الواحد ما يجرالوش حاجة ولا يتقتل"
"يا نهار اسود! يتقتل؟ ...بس انا شايفه الطيارة مليانة محجبات. يعني كل دول هيقلعوا؟"
"ماعرفش بقه..انا مليش دعوة بحد. انا واحدة باشتغل وعايشة لوحدي، ومش هخاطر بحاجة زي دي"
"هو انتي حصل معاكي حاجة؟"
"انا؟ يووه كتير. مش عايزة اخوفك. الانجليز وحشين اوي اوي"
"امال لسه عايشة هناك ازاي؟ وبعدين مش حرام قلع الحجاب؟"
"دي مفهاش حرام ولا حلال. انا سألت الشيخ الارنؤوطي وقاللي طالما خايفة على سلامتك يبقه اقلعيه"
"سبحان الله! الشيخ الارنؤوطي بنفسه؟ وانت وصلتيله ازاي بقه؟"
"وصلتله عادي. جبت نمرته وكلمته"
"طب الله يكرمك اديني نمرته.. ده انا من زمان عايزة اسأله في كذا فتوى"
"نمرته؟ اه ...ماشي هابقه ادور عليها واديهالك".
انقضت بقية الرحلة في صمت. فقد أطبق بؤس تام على خديجة قلقا مما ينتظرها في بلاد الفرنجة. أما أمنية فكان مرد صمتها الخوف من أنها ربما بالغت في إرهاب زوجة حسين. أي نعم هي ستوصلها له لكنه غالبا لن يكن لها اي امتنان إن هو تسلمها كومة من الاعصاب المنهارة. ثم كيف لها اساسا أن تواصل الكلام واذناها ترتجفان من صاروخ الهواء الذي يلفحهما على الملأ لأول مرة منذ عشرين عاما.
نظرت إليها تلك الاخيرة باستغراب إذ كانت محاولاتها لاستدراج امنية لاي حديث طوال ما مضى من الرحلة قد باءت بفشل ذريع.
"انا عايزاكي تسمعي اللي هاقولهولك. انا هاقوم دلوقتي على الحمام ومش عايزاكي تستغربي لما تلاقيني راجعة قالعة الخمار".
"لا يا حبيبتي مش هاستغرب. انا برضه حسين مفطمني وقايللي اجيب معايا طرح صغيرة عشان شكلي ما يبقاش منتقد. بس انا مستحرمة اوي البس منديل الراس ده. ده الخمار سترة وحشمة يا امنية يا أختي"
"لا مش قصدي. انا قصدي اني هاشيله خالص"
جحظت عينا خديجة حتى أوشكتا على مغادرة وجهها.
"ايوة. ايوة انا هاطلع بشعري. الموضوع كبير اوي وفي حاجات هافهمك عليها على قد ما اقدر. بس مهما قلتلك مش هتفهمي الا لما تجربي بنفسك".
قامت أمنية إذن، يلاحقها الذهول سهاما من عيني خديجة. وعندما خرجت من دورة المياه بحقيبة يد قد انتفخت بما حشيت به من ملابس ألفت خديجة على نفس وضعها: العينان جاحظتان والفم فاغر.
ألقت بنفسها على المقعد وقالت ما جادت به قريحتها وهي في دورة المياه:
"سمعتي عن هجمات 11 سبتمبر يا خديجة؟"
"سبحان الله! وهو في حد ما سمعش؟ انا متعلمة على فكرة ومعايا لاسانس حقوق"
"طبعا يا حبيبتي انا ما قصدش. بصي بقه من ساعتها والمسلمبن في لندن مكروبين. الانجليز بيهاجموهم ويتعنصروا عليهم من ساعتها"
"يتعنصروا؟"
"ايوة. يعني يهاجموهم هجمات عنصرية"
"انا فاهمه. بس استغربت الكلمة شوية. بس يعني حسين ما جابليش سيرة حاجة زي كده"
"تلاقيه مش عايز يخوفك. بصي كلنا اتعرضنا لهجمات.. رجالة وستات. بس الستات اكتر بكتير عشان الحجاب بيجنن الانجليز. في سواق صومالي اتضرب في جنوب لندن. وفي واحدة ست حامل - محجبة طبعا - حدفوا عليها طوب وكانوا هيسقطوها"
"للدرجة دي؟"
"كل ده في الجرايد يا حبيبتي واسألي حسين. ده غير الشتايم اللي بتسمعيها طول ما نتي ماشية. بس الشتايم مش مشكلة ياريت تيجي على قد كده. المهم الواحد ما يجرالوش حاجة ولا يتقتل"
"يا نهار اسود! يتقتل؟ ...بس انا شايفه الطيارة مليانة محجبات. يعني كل دول هيقلعوا؟"
"ماعرفش بقه..انا مليش دعوة بحد. انا واحدة باشتغل وعايشة لوحدي، ومش هخاطر بحاجة زي دي"
"هو انتي حصل معاكي حاجة؟"
"انا؟ يووه كتير. مش عايزة اخوفك. الانجليز وحشين اوي اوي"
"امال لسه عايشة هناك ازاي؟ وبعدين مش حرام قلع الحجاب؟"
"دي مفهاش حرام ولا حلال. انا سألت الشيخ الارنؤوطي وقاللي طالما خايفة على سلامتك يبقه اقلعيه"
"سبحان الله! الشيخ الارنؤوطي بنفسه؟ وانت وصلتيله ازاي بقه؟"
"وصلتله عادي. جبت نمرته وكلمته"
"طب الله يكرمك اديني نمرته.. ده انا من زمان عايزة اسأله في كذا فتوى"
"نمرته؟ اه ...ماشي هابقه ادور عليها واديهالك".
انقضت بقية الرحلة في صمت. فقد أطبق بؤس تام على خديجة قلقا مما ينتظرها في بلاد الفرنجة. أما أمنية فكان مرد صمتها الخوف من أنها ربما بالغت في إرهاب زوجة حسين. أي نعم هي ستوصلها له لكنه غالبا لن يكن لها اي امتنان إن هو تسلمها كومة من الاعصاب المنهارة. ثم كيف لها اساسا أن تواصل الكلام واذناها ترتجفان من صاروخ الهواء الذي يلفحهما على الملأ لأول مرة منذ عشرين عاما.
-----------------------------------------------------
ستظل خديجة طويلا تتحسر على أن أول عهدها بمطار هيثرو - الذي حكى لها حسين عنه وتحاكى - أفسد بسبب مجموعة عوامل تآمرت ضدها. فقد استيقظت نسمة وانطلقت رأسا في الصراخ طالبة تلبية كل احتياجاتها في ذات الوقت من مأكل ومشرب وغيار ولعب. ثم أنه ما كان لخديجة أن تلحظ فخامة المطار ونظافته ونظامه بينما عيناها ترجعان لأمنية، ثم ترجعان وترجعان غير مصدقتين. فالآن في صالة الوصول العائمة في بحر من الضوء ظهر جليا أن المسألة أكبر من مجرد خمار وأزيل: فالشعر غجري مجنون متمرد على محاولات صاحبته لجمعه (وهي محاولات لا يمكن إن تحرينا الصدق وصفها بالمستميتة)، والجينز ملتصق بالساقين، والقميص يفتقر على الاقل الأزرار الثلاث العليا، ثم أنه لا يكاد يصل للجينز المشين. الأرجح أن فتوى الأرنؤوطي لم تتطرق لأي من هذا.
وقفتا في طابور الجوازات ونودي عليهما في نفس الوقت عند ضابطين متجاورين. أخذت خديجة تحوقل وتبسمل سرأ وتختلس النظر إلى حيث تقف أمنية. كانت قلقة أن تتجاوز أمنية فحص الجوازات بسرعة وتتركها، فهي مقيمة في لندن.. ثم انها تبدو كبنات البلد وتتكلم مثلهن. أما هي الغلبانة التي ترتدي زي الارهابيين كما يسمون المسلمين هنا (طبقا لتأكيدات اللندنية أمنية) فبالتأكيد لن تمر بسهولة بل سيكون هناك سين وجيم وربما ليلة أو اثنتان في حجز المطار.
نظر اليها الضابط بعينين في زرقة الخرز على جدران غرفتها في بيت أبيها فارادت ان تعترف له من فورها بالبط والمحشي وغير ذلك مما لذ وطاب مما يسيح الآن في الحقيبة في مكان ما من المطار. حول نظره لابنتها فضمتها لاشعوريا وفكرت بجدية أن تخلع الحجاب الآن أمامه لتثبت له انها ليست ارهابية - اي شيء مقابل ألا يفرقوا بينها وبين فلذة كبدها. ختم الموظف الجواز ورفع عينيه مرة اخرى وابتسم قائلا: "ولكام تو ذا يو كاي. هاف أ نايس ستاي"
غشاها الارتياح موجات لا تلبث ان تنحسر واحدة حتى تفور الأخرى. عبرت إلى ما وراء مكتب الضابط وهي تتمتم بلا توقف "سانك يو..سانك يو". تلفتت فإذا بأمنية (أو أوم-ني-يااا كما سمعتها تنطق اسمها لضابط الجوازات) لا تزال حيث هي. كان الضابط يوجه لها اسئلة كثيرة متلاحقة بينما ترد هي بارتباك واضح.
أخيرا وبعد برهة طالت وطال معها طابور القادمين دق الختم على الجواز وجاءتها أمنية بوجه في لون الدم وقالت دون أن تلتقط نفسها:
"مش باقولك؟ اي حد جاي من مصر او من دولة اسلامية يبقه ارهابي على طول. يعدو يذلوا فيه لغاية ما يدخلوه. انت بس كان حظك كويس. ده تلاقي الضابط اللي عداكي ده هيتجازى. تعالي ورايا على الله تكون الشنط وصلت"
وقفتا في طابور الجوازات ونودي عليهما في نفس الوقت عند ضابطين متجاورين. أخذت خديجة تحوقل وتبسمل سرأ وتختلس النظر إلى حيث تقف أمنية. كانت قلقة أن تتجاوز أمنية فحص الجوازات بسرعة وتتركها، فهي مقيمة في لندن.. ثم انها تبدو كبنات البلد وتتكلم مثلهن. أما هي الغلبانة التي ترتدي زي الارهابيين كما يسمون المسلمين هنا (طبقا لتأكيدات اللندنية أمنية) فبالتأكيد لن تمر بسهولة بل سيكون هناك سين وجيم وربما ليلة أو اثنتان في حجز المطار.
نظر اليها الضابط بعينين في زرقة الخرز على جدران غرفتها في بيت أبيها فارادت ان تعترف له من فورها بالبط والمحشي وغير ذلك مما لذ وطاب مما يسيح الآن في الحقيبة في مكان ما من المطار. حول نظره لابنتها فضمتها لاشعوريا وفكرت بجدية أن تخلع الحجاب الآن أمامه لتثبت له انها ليست ارهابية - اي شيء مقابل ألا يفرقوا بينها وبين فلذة كبدها. ختم الموظف الجواز ورفع عينيه مرة اخرى وابتسم قائلا: "ولكام تو ذا يو كاي. هاف أ نايس ستاي"
غشاها الارتياح موجات لا تلبث ان تنحسر واحدة حتى تفور الأخرى. عبرت إلى ما وراء مكتب الضابط وهي تتمتم بلا توقف "سانك يو..سانك يو". تلفتت فإذا بأمنية (أو أوم-ني-يااا كما سمعتها تنطق اسمها لضابط الجوازات) لا تزال حيث هي. كان الضابط يوجه لها اسئلة كثيرة متلاحقة بينما ترد هي بارتباك واضح.
أخيرا وبعد برهة طالت وطال معها طابور القادمين دق الختم على الجواز وجاءتها أمنية بوجه في لون الدم وقالت دون أن تلتقط نفسها:
"مش باقولك؟ اي حد جاي من مصر او من دولة اسلامية يبقه ارهابي على طول. يعدو يذلوا فيه لغاية ما يدخلوه. انت بس كان حظك كويس. ده تلاقي الضابط اللي عداكي ده هيتجازى. تعالي ورايا على الله تكون الشنط وصلت"
-------------------------------------
وقف ثلاثتهن، أو وقفت اثنتان وحُملت الثالثة، في انتظار حسين. كانت أمنية متململة وتريد ان تذهب باسرع ما يمكن. لم يعد مناسبا الآن وقد صارت تشبه الانجليز - أو على أسوأ تقدير اليونانيين - أن تشاهد مع أناس متخلفي المظهر كخديجة. ثم أنه أحرجها كثيرا ان يسائلها ضابط الجوازات هكذا بينما تمر تلك القادمة من اعماق الريف، تلك التي لا تتحدث كلمة انجليزية واحدة، وكأنها الملكة اليزابيث بجلالة قدرها. تعلم أمنية جيدا ان اختيار من يسأل قليلا من قبل الضابط يتم عشوائيا في كثير من الاحيان، ولكنه أمر مريح ومغر جدا ان تصوره لنفسها كأنه كره عنصري.
نظرت في الساعة فقدرت انها اذا غادرت الآن فقد تتمكن من اللحاق بالحفل الذي دعاها اليه جيمز بمناسبة انتقاله لشركة جديدة. في الحقيقة هو لم يدعها بالضبط. فهو لم يوجه لها كلمتين منذ انضمامها للشركة. ما حدث أنه ارسل دعوة عامة على ايميل الشركة كما جرت العادة. لكنها لن تفوت هذه الفرصة لابهار الجميع ومنهم الملعون هاري بمظهرها الجديد.
نظرت صوب بوابة المطار ثم قالت: "أهو حسين وصل. انا هامشي بقه"
"وصل؟ فين؟ انا مش شايفاه"
لكن امنية كانت قد ذابت فعلا في الزحام.
نظرت في الساعة فقدرت انها اذا غادرت الآن فقد تتمكن من اللحاق بالحفل الذي دعاها اليه جيمز بمناسبة انتقاله لشركة جديدة. في الحقيقة هو لم يدعها بالضبط. فهو لم يوجه لها كلمتين منذ انضمامها للشركة. ما حدث أنه ارسل دعوة عامة على ايميل الشركة كما جرت العادة. لكنها لن تفوت هذه الفرصة لابهار الجميع ومنهم الملعون هاري بمظهرها الجديد.
نظرت صوب بوابة المطار ثم قالت: "أهو حسين وصل. انا هامشي بقه"
"وصل؟ فين؟ انا مش شايفاه"
لكن امنية كانت قد ذابت فعلا في الزحام.
أقبل حسين مبتسما. وعلى سبيل التحية قال وهو يحمل نسمة ويقبلها: "يا بنت الايه يا ام نسمة. خرجتي بسرعة أوي. شكلك كده عرفتي تعدي بالبط والمحشي"
"ربك بيسهلها"
"الحمد لله. دي اكيد بركة القرآن اللي حافضاه أمنية. إلا هي فين صحيح؟!"
الشكر واجب لمحمد العزبي واشرف زيدان وهبة الله رفعت في كتابة هذه القصة :)
ReplyDeleteنورا الحبيبه القصة رائعه جداً و واقعيه بشكل غير مسبوق و الحبكه ممتازه حتي ان القارئ يشعر بأنه يعرف الشخوص وكأنه قابلهم بالفعل فمثلا واقعة أمنيه و قد تخلصت من الحجاب و رجعت لخديجه بشعرها(الغجري المجنون ذكرني بشخصيه كنت قد التقيت بها في لندن و كذلك واقعة ضرب المحجبة الحامل - شلت ايدي الضاربين- لن أنساها مدي الحياه وقد أشرت إلي سذاجة خديجه بالرغم من حصولها علي ليسانس الحقوق مما يؤكد تدهور التعليم تماماً و أعجبني إشارتك اإلي وصول حسين لمركز قيادي فهذا يشرف كل مصري يعمل بالخارج و عدم ثقة حسين بأنه لن يدفع مقابل لاستخدام السكايبي كل ذلك و غيره كثير و النهايه جميله باختفاء أمنيه خجلا من حسين ان يراها بشعرها الغجري و بزيها الذي وصفتيه بمنتهي الدقه والقصة في مجملها مشوقة جداً و تدعو لقراءتها مرات و مرات و في انتظار المزيد من قصصك الرائعه وفقك الله
ReplyDeleteقصة رائعة.. بارك الله فيكي
ReplyDelete