ظل أبيها
عندما استيقظت غالية هذا الصباح تذكرت اباها. كانت لديه عادات يمارسها فقط في عطلته الصيفية التي "ينزل" فيها الى القاهرة على حد التعبير المصري لسكان الخارج ممن يعتبرون مصرا جذرا ينزلون اليه نزولا: لا فرعا يتجهون اليه صعودا. في كل صباح كان يرضخ في النهاية فيسمح لاصوات المدينة ان توقظه. لكن دأبه كان ان ينهض نصفيا فقط، شكليا فقط. اي: يجلس على طرف السرير برهة تمتد طويلا. وتلامس قدماه البارزتان من بنطال نومه المقلم الواح الارض الخشبية. في مثل هذه الاوقات كان وجهه يعكس عزما خالصا: سأرجئ فتح الابواب للعالم قدر الامكان. ولم يثنه عن عزمه هذا اصوات الباعة الجائلين (من يؤكد له أنه سيسن السكين بل والمقص، ومن يزمر لاطفال الحي كي يشتروا غزل البنات). ولا كانت تؤثر فيه رائحة البخور التي اعتادت زوجته ايقادها قبل ثلاثين عاما ل'تطرد الفأل السيء' كل صباح ولا حتى ضجيج الصغار.
هذا الصباح فعلت غالية الشيئ نفسه. مكثت في الفراش طويلاً بلا حراك. بعد برهة طالت واعتذارا من العالم الذي بالتأكيد ينتظر منها ما هو أكثر وضعت قدميها (اللتين سببتا لها الما نفسيا لا نهائيا في مراهقتها بحجمهما وعروقهما النافرة) على الارض.
فلهذا اليوم الذي لا بد وأن يبدأ رهبة. تنبع خصوصيته من أنها ستزور فيه بيتها المستقبلي: ها هي ذا تراه الآن بعينيها بينما تبدو للناظر وكأنها تفحص قدميها باهتمام. في الحقيقة هي لا تراهما، وهل كان أبوها يرى قدميه فعلا وهو يحدق فيهما مليا في الأمس القريب؟ بالقطع لا. حتى كطفلة صغيرة كانت تعلم أنه يجول في عوالم غريبة عنها في تلك الاوقات.
أما هي فكانت ترى ذلك (البيت) بوضوح . كان يتألف من غرفتين، مساحة الأولى لا بأس بها على الاطلاق. فالسقف عال لا يقل ارتفاعه عن مترين. الاختلاف الوحيد بينها وبين غرفنا المعتادة هو أنها تقع بالكامل تحت الأرض، وبلا نوافذ. بإمكان أي شخص يذهب إلى هناك أن يمشي فوق هذا السقف تماما كما يسير المرء فوق أي أرض مستوية أخرى. لكن أحدا لا يفعل ذلك احتراما لجثامين ثلاثة رابضة أسفله.
الغرفة الثانية - والاخيرة - في ذلك البيت العجيب الغريب هي غرفة الحريم. وهي بنفس قياسات الأخرى تماما إلا أنها شاغرة - حتى الآن. في أي لحظة يمكن أن تصل أولى ساكناتها، ومن يدري؟ فربما تنال غالية نفسها هذا الشرف.
في هذا الصباح عندما كانت غالية تبدو للناظر مهتمة ايما اهتمام بقدميها كانت في الحقيقة تجول في هذا المسكن الذي ليس كمثله مسكن. كانت تتنفس هواءه المتعفن الراكد الذي تصل فيه نسبة الاوكسجين الى حدود دنيا، وكانت تذوق طعم التحلل.
----------
لاحقا، وبينما سيارتهم تقطع شوارع القاهرة متجهة للمدفن هيمنت على غالية فكرة وحيدة: يجب أن أنتهز الفرصة اليوم، لا مجال للتقاعس أكثر من هذا. بمجرد أن نصل إلى مقبرة الاسرة ويتخذ كل منا مقعدا سأسأل أمي السؤال الذي شغل بالي طيلة الاشهر الاربعة الماضية. فغالية مقتنعة تماما أنه اذا كان هناك شخص على هذه البسيطة يعلم الاجابة فستكون الأم.
تدرك غالية جيدا أن السؤال مستنكر وغريب. تفهم أنها ستبدو كالمجنونة إن تلفظت به. لكنها مضطرة وراضية في آن بـأن تجازف بسمعتها العقلية. فالسؤال ، أو بالاحرى الاجابة، هي الشيء الوحيد الذي يمثل أملا ولو ضئيل في أن يندمل جرحها.
فوجئ الجميع بأن المدفن مزدحم بشكل لم يعهدوه في زياراتهم السابقة. ثم مالبثوا أن أدركوا السبب. فاليوم يوم جمعة. هالها أن نسيت هي وكل الاخرين ان اليوم هو الاكثر شعبية بين زائري الموتى. أنبت نفسها كثيرا على ذاكرتها المترهلة . الم تتعلم وهي طفلة أن الملائكة تسجل أسماء زوار المقابر ليلة الجمعة وحتى غروب شمس هذا اليوم؟ ألم تسمع المعلمة وهي تقول بتلذذ لمجموعة من اطفال الصف الخامس الابتدائي (شاحبي الوجوه من هول ما يسمعون) إن من يريد أن يعلم موتاه بزيارته لهم فعليه أن يختار الجمعة دونا عن كل الايام؟ انتزع بهذا الجمعة لقب أكثر الايام ازدحاما في المقابر بجدارة. وهو ما كان يجب أن يدفعهم لتجنبه بأي ثمن. فلا شيء يستحق ضغوطا اضافية في زيارة لا تعوزها الضغوط.
حاولت أن تهدئ من روع نفسها: لطيف أن تعلم (أولا) أن الملائكة ستقرأ اسمها اليوم ضمن قائمة من زاروا موتاهم و(ثانيا) ان اباها سيتباهى بذلك بين رفاقه. لكن محاولاتها ذهبت سدى. فالضيق والتوتر بدءا في الارتفاع في جوفها كحليب متخثر يغلي في قدر.
ما زاد الطين بلة والضجيج ضجيجا والزحام زحاما هو ان شخصين انتهى عمرهما اليوم ايضا بالذات. وها هما جنازتان في آن واحد تجريان في المدفن.
كل هذا كان فوق الاحتمال. فاذا كانت شمس ما قبل الظهيرة التي لا تعرف الرحمة وحرارة أغسطس اللزجة أموراً لا مفر منها، فكيف تبرر لجهازها العصبي صوت الحفر في التراب ومنظر الصغار الذين يركضون بين أزقة المدفن بثياب الجمعة الزاعقة الالوان؟
وصلت سيارتهم الى مقبرة الاسرة في زمن قياسي . فسابقا كانوا يضلون الطريق كل مرة. ولكن يبدو ان تلك الايام ولت: لقد صاروا خبراء. كانت في الحقيقة دوما تتطلع للوقت الذي يمضونه تائهين في المدفن لانه يؤخر لحظة الالم، لحظة الحقيقة. فبأي حماس هذا يفترض ان تتطلع لملاقاة اليد المتجمدة البرودة التي تصافحها في هذا المكان كل مرة؟ (هي لم تر اليد بعينيها.. صحيح، لكنها شعرت بها تصافحها على النحو التالي: تمسك اليد بأحشاء غالية وتعصرها بقسوة متناهية للحظات. ثم تخلي سبيلها).
لكنها استجمعت ما أوتيت به من عزيمة ونزلت. فهذه المرة غير سابقاتها. هذه المرة ستطرح (السؤال) على أمها وستحرص على أن تخرج باجابة. كانت تعول على أن جنون أسئلتها سيتلاشى إلى جانب جنون المكان وهول الموقف.
كانت في انتظارهم مفاجأة.: المقبرة اليوم وسخة. ما الذي دهاهم بحيث ينسون جميعا الاتصال بالحارس قبل يوم أو يومين ليعلموه بقدومهم كما فعلوا دوما في السابق؟ كانت طبقة كثيفة من التراب الاسود تغطي كل شيء. اصبح مستحيلا ان يصدق احد ولو أقسمنا عليه بالايمان المغلظ ان عاملا كلف نفسه ذات يوم بتثبيت بلاطات على الارضية. المقاعد الرخامية - الحليبية في الاصل - اتشحت بسواد قاتم. الأمر يتعدى أن المكان بدا غير نظيف، فالمنظر يوحي بأن شخصا ما تكبد عناء توسيخ المكان. كم هائل من الغبار الاسود غطى كل الاسطح وسواها بهندسة تختفي تحتها اي ثنيات. أكوام صغيرة و - إحقاقا للحق - أنيقة من الغبار انتصبت في الزوايا. وأثبت الغبار ذلك اليوم حقيقة علمية قد ينساها المرء من هول كثافته مفادها أنه في النهاية خفيف ناعم، يتطاير مع أقل نسمة هواء، وهذا بالضبط ما فعله اليوم. فسرعان ما تناثر إلى داخل الانوف والافواه.
كان السيد الحقيقي في ذلك اليوم هوام الارض. فلفترة طويلة لم يزعجها مخلوق فأخذت راحتها تماما: حشرات لا يمكن التصديق بوجودها - خارج مواقع تصوير افلام الخيال العلمي ربما - اخذت تذرع جدران المقبرة طولا وعرضا. كانت لغالية نظرية في الحشرات. لم يقبل عقلها ابدا أنها مجرد مخلوقات شاءت اقدارها ان تكون بشعة المظهر. بل أن بشاعتها نتيجة حتمية ومباشرة لانحطاطها الاخلاقي. فالحشرات في عالم غالية هي الشر المطلق. وإذا كانت الحياة مجرد رواية (ليست مكتوبة بعناية فائقة كما اسرت غالية لنفسها غير مرة) فالشرير الاعظم فيها هي الحشرات ولا شي غيرها. ذهب بها خيالها الى مناطق موغلة في التوحش وهي تحاول ان تتخيل ما يمكن ان يكون الامر عليه بالاسفل حيث يرقد اباها وعماها اذا كان الوضع بهذه الصورة في الاعلى.
وقف خلفها القبح المحض وهمس في اذنيها بصوته المشروخ: "لا تتدعي الذهول. كنتِ دوما تعلمين بوجودي..."
صمت قليلاً ثم أضاف: " في قرارة انفسهم، كل الناس يعلمون."
-----------
هذا هو الوضع اذن. ما تراه هو ما ستحصل عليه. بعد اليوم لن يستطيع أي منهم ان يتناسى حقيقة الموت،. لن تساعدهم على التناسي أوراق زعف النخيل التي تنثرها زوجة الحارس فوق القبر لتخفف من وطأته على زائريه وإن نثرت مائة ورقة. ما الداعي - بعد اليوم - إلى كنس الغبار؟ ما المنطق وراء رش الارض بالمياه؟ كيف - تود غالية لو تعرف - يفترض ان تنجح رؤية الحدود الفاصلة بين البلاط في الأخذ بخاطرها؟ الآن ثمة اقتراح جديد لرؤية المسألة بعيون جديدة: اقتراح بالاستسلام لليأس، بالاستمتاع به.
ظهر في مدخل المقبرة ابن الحارس. جال بنظره سريعا بينهم ثم اختفى لحظات عاد بعدها يحمل بعض الكراسي. كان حديث عهد بالمهنة فجلب كراسي اقل من المطلوب بل وكان أحدها شبه مكسور. خفق فوق رؤوسهم طائر الحرج بجناحين ثقيلين وتظاهروا جميعا بأنهم لا رغبة لديهم في الجلوس اصلا. اشار بعضهم بغموض للمقاعد الرخامية التي استحالت سوداء، وكأن أيا منهم سيدع طرف ثوبه يلامسها.
لم يكن هذا ما توقعت ان يكون عليه الامر. هذا يغير كل شيء. يفسد كل شيء. ارادت ان تتوسط المقبرة بحيث تصبح أعينهم جميعا مسلطة عليها. عندئذ ستضع يديها على خاصرتها وتدبدب بإحدى قدميها على الارض وتعرفهم أنها الآن كان يفترض ان تكون جالسة - بدرجة لا باس بها من الراحة - إلى جانب والدتها على غير مسمع من الأخرين. وكان يجب - طبقا للنص - أن تهدئ من روع أمها (ان كان روعها في حاجة للتهدئة) وان تلفت انتباهها الى ان المهم ان تجيبها على سؤالها الجوهري والملح. وكان تود ايضا تذكير الجميع بأن الحشرات من أحفاد الديناصورات لا يرد ذكرها البتة في هذا السيناريو.
بطبيعة الحال لم تفعل ايا من هذه الاشياء. بل ابتلعت استياءها وسارت خطوات أوصلتها الى حافة القبر. اذا وقفت في المنتصف تماما ووجهت وجهها شطر المسجد الحرام - وقد فعلت - تكون متعامدة مع جسد ابيها الذي يرقد تحتها بمترين. الفارق الوحيد ان جثمانه افقي بينما جسدها - إلى حين إشعار آخر - رأسي. وكأن جسد ابيها بات ظلا لها في ساعة الظهيرة هذه حيث لا ظل لشيء. هذا على كل حال ما قالوه لها في زيارتها الأولى عندما لم يكن قد مضى على دفن ابيها سوى عشرين دقيقة. الآن صار مدفونا اربعة اشهر كاملة، ورغم ذلك فقد منعت نفسها بصعوبة بالغة من الصراخ: "لكنه هناك في الاسفل وحده بلا نوافذ ولا ابواب لماذا لا يحرك أحد ساكنا؟؟"
أغلقت عينيها بعنف كي لا ترى الديدان وهي تمص جثمانه. سمعت من قبل أو قرأت أن العظام هي آخر ما يبقى من الانسان ولكن الشعر والاسنان ايضا تحقق أزمان بقاء لا بأس بها على الاطلاق. ثم... يتلاشى كل شيء.
كان الآخرون جميعا مغرقين مثلها في التفكير أو ربما الدعاء. حاولت ان تلقي عليه التحية كما تعلمتها: (السلام عليكم. انتم السابقون ونحن اللاحقون) لكن شفتيها جافتان مضطربتان وجبهتها مغطاة بعرق بارد. لم تقل شيئاً.
اختلست نظرة صوب أمها. ترى هل تجدها منهارة في البكاء؟ على عكس الاخرين جميعا لم تكن الام قد زارت القبر منذ الجنازة. فقد كانت ترفض ذلك كمبدأ. كانت تردد دوما أنه بالامكان الترحم على الميت والدعاء له من اي بقعة في الارض." وعندما يحين دوري" كانت كثيراً ما تقول، "لا ترهقوا انفسكم بزيارتي. ادعوا فقط لي بالرحمة إن خطرت في أذهانكم".
وجدت غالية ان عيني الام جافتان تماما وإن كانتا في حمرة النار. كانتا مثبتتين على البقعة التي هو مدفون بها. وكانت شفتاها تتمتمان بهيستريا بآيات قرآنية. وكانت اصابعها بيضاء من قوة قبضتها على سبحتها السوداء.
مرة ثانية احتجت غالية بصمت: لم يكن هذا في السيناريو ايضا. شخص ما خلط أوراق النص فحذف بعضها واضاف اخرى. ألم يكن المفروض ان تكون هي - لا أمها - المتماسكة النبيلة الراقية في لوعتها؟ ألم يكن المفروض ان تهدئ هي من روع الام وتطرح عليها سؤالها ثم تحثها على الاجابة؟ لم يكن في المخطط ان ترتجف يدا غالية على هذا النحو الخارج عن السيطرة، بل أن تمتدا برقة وثقة الى حقيبتها فتعثران فورا على منديل معطر (رغم ان غالية في الحقيقة لا تحمل معها هذا النوع ابدا ) ثم تدسه في يد أمها. بعد ذلك، لم يكن باقيا في السيناريو سوى ان تمسح الام دموعها وتستمع للسؤال ثم تجيب. وسواء أجابت بنعم ام بلا لا يهم، فايا كانت اجابتها ستتبناها غالية تلقائيا على أنها الحقيقة المطلقة.
-----------
شعرت بان شخصا يلوح في مدخل المقبرة فالتفتت. رجل يرتدي جلبابا قذرا كان يدلف الى المقبرة في هدوء. تعلم غالية جيدا من هذا: انه احد هؤلاء المقرئين ممن يجبرونك على سماع القرآن طمعا في مالك. الفكرة ليست في ان غالية لا تريد سماع القرآن: بل هي ترفض هذا النوع من التسول المقنع. ها هم رجال في عنفوان قوتهم لا يفعلون شيئا طوال اليوم الا انتظار امثالها من الزوار كي يمارسوا عليهم نوعا خاصا من البلطجة فيسمعونهم قرآنا أجبروا على تعلمه في طفولتهم. ابشع ما في الموضوع ان معظمهم قراءته حافلة بالاخطاء وصوته منفر. لكن التجربة علمتها ان بعضهم يمتلك اصواتا عذبة للغاية. وبعضهم يمثل انه يفهم ألمها. يمثلون فقط، لكنها تقدر لهم التمثيل.
"غافر يا شيخنا" قالت في محاولة يائسة لانقاذ اليوم، "اتلُ علينا من سورة غافر" نظر اليها بتثاقل وهو يهوى على الارض في وضع القرفصاء ثم زمجر قائلا: "مش حافظها".
لا مفر من مواجهة الحقيقة: اليوم سيسجل في التاريخ كيوم فاشل من كل الجهات. انطلق "الشيخ" يقرأ سورة أخرى بصوت مبحوح هزيل.
تبادلت هي والاخرون نظرات قلقة لما اظلم مدخل المقبرة بالمزيد والمزيد من المقرئين. هكذا يكون الحال في يوم الجمعة: فهو أهم ايام الاسبوع في عالم هؤلاء الحثالة واسوأ ايام الاسبوع في حالتها. ما العمل الآن؟ حتى الحارس لا يبدو موجودا. بالتأكيد هو الآن منشغل بتحصيل اكبر قدر ممكن من المال من اقارب الموتى الجدد.
أخذت تراقب الآخرين ينزلقون صوب البوابة لصد هجوم المقرئين/البلاطجة. لم يكونوا يسيرون، بل يطفون طفواً. لم يدهشها ذلك اطلاقا. فمؤخرا بدا لها وكأن الكثيرين يأتون بحركات غير منطقية. كهذه الخرقاء في اجتماع الشركة أمس التي نهضت من مكانها واخذت تسبح في الهواء وكأن الجاذبية الارضية شيء لا يستحق ان نعيره اي اهتمام. غالية تصرفت بلباقتها المعهودة فاكملت الاستماع باهتمام بالغ لما يقوله المدير بل وضاعفت من اهتمامها كي يعلم الجميع انها عاقلة تماما وان كان الاخرون مجانين. أو مثلا ذاك المتشرد الذي اخذ يلح عليها في شراء مناديل او شيء اخر تافه بينما هي حبيسة الاشارة الحمراء خلف مقود سيارتها. عندما تجاهلته كبرت احدى عينيه وتضخمت واحتلت تقريبا مساحة وجهه كله. مرة ثانية كان رد فعلها مصدر فخار هائل لها. فقد استمرت تحدق في اللاشيء - آية في رباطة الجأش - إلى أن تحول الضوء الاحمر الى اخضر.
ارادت ان تشارك اقرباءها جهودهم لمواجهة احتلال المقبرة، لكن ساقيها لم تستجيبا مطلقا لأمر التحرك. ساءها هذا كثيرا بل وجرح مشاعرها هذا الجحود وممن؟ من اطرافها. حاولت على الاقل ان تصرخ في وجه هؤلاء المقرئين/المجرمين ففتحت فاها وكلها امل ان يخرج عنه سباب واثق طلق. لكن شيئا لم يخرج، فقط صمت غير مفهوم.
شيء ما جعلها تنظر خلفها في تلك الحظة، صوب الجدار البعيد المقابل للبوابة. وعندئذ رأته: كان الذعر قادماً نحوها على مهل من أعماق المقبرة وعلى وجهه شبح ابتسامة. كان يضع يدا في جيبه وبيده الاخرى حياها على استحياء. لما بات قريبا حدقت في عينيه وادركت انها لا يمكن - لا يمكن - ان تتخيل مغادرة هذا المكان دون ان تسال امها بل وتحصل على اجابة. كلما اصابها القلق من ان يبدو سؤالها احمق تذكرت انه سيكون اشد حماقة ان طرح في غرفة جلوس امها المكيفة وسط رنين المحمول وعلى وقع الفضائيات.
شعرت بظمأ شديد وأدركت انها إن لم تجلس فوراً فستفقد حتماً الوعي. كان الكرسي المكسور هو الاقرب. هوت عليه فكان أكرم مما توقعت ولم يهو بها. سرها ذلك ولم تتمالك التفكير انها رغم كل شيء، رغم الحيرة ورغم الهلاوس، فإنها على الاقل فقدت بعض الوزن. انها في النهاية نحيفة، رقيقة، هشة كبطلة رواية غرامية ركيكة.
عند البوابة كانت الفوضى على اشدها: المقرئون يتدافعون كي يدخلوا، بعضهم بدأ في قراءة القرآن من قبل ان يجد لقدمه موطئا بالداخل. وبعضهم بدأ يصيح عندما أدرك بحدس المتسول غياب اي نية لدى أقربائها للدفع. وهنا..حدث ما لا يمكن وصفه، أسوأ ما كان ممكنا ان يحدث: نهضت الام من كرسيها وأعلنت: (خلاص.. عملت اللي جيت عشانه. انا ماشية).
في تلك اللحظة بالذات انهارت مقاومة الكرسي. وجدت غالية نفسها تهوى صوب الارض - نفس الارض التي تضم رفات ابيها وعميها. وفي تجاهل سافر لقوانين الفيزياء قررت تلك الارض ان تسرّع من وتيرة ما يحدث فارتفعت بدورها للأعلى. ابتسمت غالية وهي ترى الارض بارزة لتلاقيها بالتصوير البطيئ - بكل ما تحويه من غبار وهوام واسئلة بلا اجابات.
تمت
نص جميل آخر، اكثر ميلا الى الرسد من النص الاول، بدأت بفعل اتلمس الروائية فيك، لكن ما زال النص يحتاج الى ترصيص ليكون اقوى واكثر رصانة، من قبيل اختزال الزائد من الكلمات وحتى الجمل في الفقرات لانها تضعف تواتر السرد.. احببت فيه التقاط التفاصيل والرصد من الداخل والخارج، وهي من علامات الروائي الجيد، واحببت اكثر الالتصاق بالذات والحديث عنها وحولها ولها وعليها، وان بتردد وخوف غير مبررين احيانا، لكن من منا بلا ريب او ظن.. القصة القصيرة، كما هي القصيدة على درجة اكبر، اكثر خطورة من الرواية لانها اختزالية بطبعها، وليست بناء متراميا مثل الرواية الطويلة، وهي لهذا تحتاج الى تمتين وترصيص ودوزنة دقيقة لكي تكون فنجان قهوة انيقا ومدهشا ومحفزا. ما يجعل النص القصير جميلا كثافته العالية التي تقطع النفس او تحبسه، واعتقد ان المفيد هنا ان يقرأ النص ناقد محب متعاطف ليزيل الزوائد الشحمية واللحمية بقليل من اللاشفقة.. كثير من "غالية" في الحقيقة هو انت، وهذا طبيعي ومتوقع ومزدوج، لكن يمكنك ان تتواري وراء شخصية البطلة من دون خوف او خشية من مساءلة او ارتعاب من بوح.. مارسي نوعا من السيطرة على الرقيب في داخلك، ازيحيه تدريجيا حتى يتهمش، وعنئذ يمكنك اعادته متى شئت... نص ممتع، لكن فيك من الكتابة اكثر من هذا بكثير.. اكتبي
ReplyDeleteماشاء الله ربنا يوفق ويتمم .
Deleteماشاء الله عليك ربنا يتمم ويوفق .
ReplyDeleteهذا التنوع فى كتاباتك شىء مثير للقارىء ,وهذا يدل على موهبتك الادبيه وغزارة افكارك ,الوصف الدقيق لعالم المقابر يدل على وعى وثقافه بالبيئه التى نعيش فيها.اعتقد بشىء من الاقلال فى السرد ستكونى قد وصلت لمرحله عظيمه من النضج الادبى
ReplyDelete