توماس هاردي.. أمس واليوم

انتهيت من قراءة "تيس" لتوماس هاردي الذي صنعتني كتاباته صنعا، ليس فقط لكثرة ما قرأت له بل لاعادتي مرارا قراءة بعض كتبه. لا أفعل هذا بالضرورة لحبكة القصة (رغم انه مشهود له بالبراعة في هذا)، وانما للاستمتاع بإضاءاته على النفس البشرية التي يخبئها في ثنايا الاحداث فتفاجئك كقطع النقود المعدنية التي كانت جدتي تخبئها في الكعك.

على سبيل المثال تأمل هاردي وهو يقول على لسان "تيس" (تلك البطلة المظلومة التي أغرمت بها وسأتناولها لاحقا بتفصيل اكبر) ان كل ورقة من ورقات التقويم تحمل تاريخا جديدا: نتصفحها فنتوقف أحيانا عند ايام تعني لنا شيئا - فرحا كان او تعسا - ونمر سريعا على ورقات أخرى لا تمثل لنا اي شيئ. ثم انتبه وهو يقول إن المفارقة هي أننا لا نتوقف عند اليوم الأهم على الاطلاق: يوم الممات الذي يختبئ وسط صفحات التقويم فيتقن الاختباء.

كم هزتني هذه الفكرة! وأنا في سباق الحياة المحموم أدون على مفكرتي موعدا مع طبيب او لقاء مع أصدقاء او رحلة سفر أجد نفسي أتساءل إن كان اليوم الذي وقع عليه اختياري الآن ببراءة سيكون لاحقا يوم الصمت الأخير.

ثم لاحظ هاردي يقول في وصف شخصية عابرة: لقد جال هذا الرجل في العالم وامعن في التجوال وكان لسفره تاثير عليه: فما يشكل للبعض أعرافا اجتماعية راسخة.. العيب كل العيب في الابتعاد عنها (كالزواج من غير عذراء مثلا في حالة البطلة تيس) لا يمثل لصاحبنا سوى ما تمثله التضاريس للكرة الارضية: قد تعلو بها التلال وتهبط بها الوديان، لكنها تبقى كرة.

ثم هاك تشبيهه الرائع الذي يسخر فيه من "حياد" المؤرخين وهم يوثقون نزعة اهل الريف للانتقال الى الحضر ثم يعددون سلبيات هذا على الريف والحضر على حد سواء، متناسين ان اهل الريف مجبورون على ذلك كرها لا طوعا: ففرص الرزق تتناقص في ريف ٍ استغنى بالميكنة عن الانسان. في مقارنة رائعة يقول هاردي: ما ينزح اهل الريف للمدن طوعا الا بقدر صعود  المياه في الأنابيب حبا في مقاومة الجاذبية الأرضية (لا رضوخا لسطوة المحرك).

ثم هناك تعليقه على طبع ينتشر كثيرا بين الانجليز: بعضهم يستعين على الحياة بالسخرية والتشكك دائما في ان السراء مجرد قناع تختفي وراءه الضراء - cynic بالتعبير الانجليزي. واحدى شخصياته هكذا فعلا. لكن تلك الشخصية تخفق في موقف ما في التحصن بسخريتها فتخذلها الية الدفاع الموثوقة هذه ويقول هاردي: لا يمكن لامرء ان يكون ساخرا طوال الوقت..ويحيا.

أعدت قراءة قصة "تيس دوربرفيل" بعد فاصل امتد ربع قرن. في هذه الأثناء مرت مياه كثيرة في النهر وعشت في بريطانيا نفسها التي كتب فيها وعنها هاردي فكأنها قصة مختلفة لأن القارئ(ة) مختلفة.

أشفقت على تيس وسوء حظها المزمن وأهم مظاهره أن القرن ذاته الذي عاشت فيه تلك الفتاة كان القرن الخطأ. فاليوم وقد حصلت الفتاة البريطانية والغربية عموما على كافة حرياتها بما فيها الجنسية بدا لي وكأن لا مجال لرواية تيس من اساسها. 

فالعقدة انها اغتصبت وهي صغيرة بعدها في السادسة عشرة. ونجم عن هذا الهجوم المروع طفل بريء اضاف وجوده مزيدا من العار لتيس وعائلتها إلا أنه سرعان ما توفي فقيرا جائعا مريضا. 

بعيد الزواج اعترفت لزوجها بما حدث تحريا منها للصدق. فما كان منه إلا أن هجرها بل وهاجر كليا إلى بلاد بعيدة غاضبا جريحا. ورغم أنه يقر بنفسه أنها كانت ضحية لكن يقينه بذلك لا يعينه على مقاومة طغيان العرف الاجتماعي. 

في النهاية تقتل تيس مغتصبها فتُعدم، وهذه ايضا مفارقة فعقوبة الاعدام ألغيت من بريطانيا لاحقا ويعدونها هناك الآن من اشكال القصاص الهمجي.

لو كُتبت القصة اليوم لنال المغتصب عقابه ولتعاطف المجتمع مع تيس ووليدها بل وكرمها كما تكرم ال SINGLE MOTHERS في المجتمع البريطاني اليوم بمعونات مالية وتسهيلات أخرى لانها تؤدي دورا ثمينا. وما كان زوجها اعترض ببنت شفة على ماضيها بل كان زاد قربا وعطفا عليها لخوضها تلك التجربة المروعة.

بعبارة أخرى: لو كُتبت القصة اليوم لما قُرأت فاسباب الصراع - الداخلي منه والخارجي - ليست على مستوى التشويق المطلوب.

خلاصة الأمر أن ما يرفضه المجتمع في ظروف زمانية ومكانية ما قد يقبله في ظروف أخرى والعكس. والأخطر أن الامر نفسه يسري على مستوى الفرد: فمن منا لم يسبق له أن تبنى أفكارا في مرحلة ما ثم نأى بنفسه عنها لاحقا. ومن لم يفعل فيكفيه مقولة محمد علي كلاي: من ينظر للعالم في الخمسين نفس نظرته له في العشرين فقد اضاع ثلاثين عاما من عمره.


Comments

  1. Dear Nouran, thanks for this fresh and refreshing take on one of the perennial masterpieces in British Literature...I read Tess of the D'Urbervilles 3 times as an undergraduate and graduate student and have always marvelled at Hardy's deep explorations of the theme of (female) victimization and ultimate annihilation by the evils of economic need, selfish male exploitation, and sheer "bad luck." Tess's sad and sinister story may not speak to the injustices meted out to Western women today, but it does to the reality of many voiceless, defenseless women in our Arab societies...those sisters, mothers, and neighbors of ours whose stories are yet to be fully told and heard...I wish you would write more reviews like this one about your favorite literary works in English and Arabic...Again, thanks DESERT ROSE!!!

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة