Skip to main content

في بعض الحالات قد يحدث موت

فوق مفتاح النور يضحك ملء شدقيه، وسيم يتوسط مجموعة من اصدقائه. كل ما في الجملة السابقة مستغرب: أن يضحك، وملء شدقيه، وأن يكون له أصدقاء. كل ما في تلك الجملة لم يدم طويلا اللهم الا الوسامة. مجموعة يقف بعضها ويجلس البعض الاخر في مكان مفتوح في محاولة للانتظام امام الكاميرا باءت بالفشل من فرط مرحهم فقرر المصور أن يلتقط الصورة على هذا الحال. الهواء يعبث بشعر الجميع والأزرار العلوية من القمصان مفتوحة والاكمام مطوية الى الكوع كموضة الستينيات.
 بجانب التلفزيون تعزف البيانو. فستانها خليق ببطلة من افلام الابيض والاسود، ابتسامتها واثقة، محسوبة. عيناها تنظران في بؤرة العدسة بتحد. تقولان: لن اشيخ أبدا. ما أجهل الشباب!
لم ير أيا منهما ابدا على هذا النحو لأنه لم يكن قد خُلق بعد. بل لم يكونا على الارجح تزوجا أو تقابلا.
على جانبي الساعة أيضا: إلى اليمين ها هو الوسيم ثانية، يقذف هذه المرة رضيعا سمينا مندهشا في سماء بدرجات الرمادي يفهم منها ان اليوم كان غائما. وإلى اليسار الواثقة ثانية، تتسلم شهادة التفوق في التوجيهية من ناظرة المدرسة التي علم لاحقا انها شقيقة نجمة مسرح شهيرة من "زمن الفن الجميل".
أما في مواجهة باب البيت فالصورة الأهم على الاطلاق: الوسيم وهو يصافح الزعيم الملهم في احدى زيارات فخامته لمستشفى المحافظة الجنوبية. كان حينها طبيبا شابا لم يلتصق به بعد وقار المهنة. كان عليه أن يتصنع ذلك الوقار المستقبلي بينما الكاميرا تسجل انه يطير فرحا من خصوصية اللحظة. أكان يتخيل يومها ان يصير كومة لحم تدثرها الملابس؟ هكذا كان الحائط، في كل بقعة خالية علق صورة لأبويه وهما في سن الشباب. فمن المفيد ان يكون لديك دليل ملموس على ان كبار السن اخذوا فرصتهم سابقا، على أن حالهم لم يكن هكذا دائما.
اليوم صباحا شهد ما لم يتصور أن يشهده يوماً؛ انفجرت حافلة على بعد خطوات منه. حدث اخباري من الطراز الاول. حدث من النوع الذي يفترض ان تقتصر علاقتك به على متابعته وأنت تتناول عشاءك أمام التلفزيون، لا ان تشهده بأم عينيك. جعله ذلك "شاهد عيان" كما يقولون في الأخبار، وجعله مفزوعا ايضا. ثارت في ذهنه مزحة قد يقولها لامرأته لاحقا عندما تهدأ نفسه: من الان فصاعدا سأقدم نفسي هكذا: "فلان الفلاني. شاهد عيان" لكنه أساء تقدير مستوى الرعب الذي تملكه. أي مزاح؟ من يقدر على المزاح الآن؟ ماذا لو كان ما وقع هجوما إرهابيا لا مجرد حادث؟ ماذا لو تكرر غدا؟ او اليوم؟ ماذا لو كان يُستنسخ الآن، هذه اللحظة؟
حين عاد ألفى البيت مهجورا الا من ابنه وكان في امس الحاجة لمن يهدئ روعه ولدهشته فعلها الابن. "اهدأ يا ابي. كلها نصف ساعة على موعد النشرة ونعرف ما حدث". أهكذا يبدأ إذن؟ ذلك المسار الذي ننقلب فيه أطفالا لأطفالنا؟ بين ليلة وضحاها سيأتي اليوم الذي يقول لي: ان لم تكف عن البكاء يا ابي لن اشتري لك الحلوى التي تحبها. هذه الحياة يجب ان تأتي بديباجة اخلاء ذمة كالمكتوبة في نشرات الدواء وبنفس الركاكة كي يفهم الجميع: 
 احترس: في بعض الحالات قد يحدث موت
 
 

Comments

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة