في فعل الكتابة

ماذا يمكن أن يكون فعل الكتابة إلا توارد للخواطر؟ فكّر بها يا من تقرأ هذه السطور.
اسمي نوران سلام.
أجلس الآن على أريكتي في غرفة المعيشة.
على بالي أمور منها ما يسعدني، كيومي العطلة اللذين يبدآن غدا بعد اسبوع شاق، ومنها ما يؤرقني كأن أصاب بنزلة برد في اليومين المرجويّن كما حدث الأسبوع السابق والأسبق.
لكن كل هذا - كل بواعث الأمل والألم تتوارى. فأنا في هذه اللحظة في مكان خاص. مكاني الخاص الذي انسحب إليه لممارسة فعل الكتابة. هو ليس بالضرورة مكاناً مادياً (فأنا على الأريكة في غرفة المعيشة كما تعرف). ما أقصده هو مجرد حالة نفسية ووجدانية، لكنني أحب أن أسميها 'مكاني الخاص'.
أنت ايضا، يا قارئ كلماتي، في مكانك الخاص الآن، المكان الذي "تستقبل" فيه ما "أرسله" لك من خواطر.
إنني أكتب لك وأنا لا أعرفك. أتخير ما أبوح به وما أُسرّه. ربما بذهني شخص او اشخاص أتخيل وقع ما أكتب عليهم. لكنني لا اعلم - حقيقةً - من سيقرأ هذه السطور ولا حتى متى. فالفكرة تسجل كلمة مكتوبة وتظل خالدة. اليوم هو الثامن من يونيو ٢٠١٣ والساعة هي التاسعة مساء. أنت، كم الساعة عندك الآن؟ ما التاريخ؟ هل تقرأ ما كتبت في نفس يوم كتابته؟ هل تقرأه بعد أسبوع؟ شهر؟ عشرة اعوام؟
من مكاني الخاص اذاً الى مكانك الخاص، حوّل! كل عناصر توارد الخواطر متوافرة: الارسال والاستقبال، عدم وجودنا - أنا وأنت - في مكان واحد. بل عدم وجودنا بالضرورة في زمان واحد كما أسلفت أعلاه. لا خداع في الامر. لا دجل ولا شعوذة، لا أحرك شفتاي وانا اكتب، ولا أنت أيضا على الأرجح. لنبدأ اذن!
تخيل معي حلقة كرة سلة في ملعب مسفلت. الحلقة كالمعتاد مثبتة على قائم وتتدلى منها شبكة مهترئة. الملعب حاليا خالٍ ومظلم الا من مصباح شارع يضيئه جزئيا فقط. تمام؟
تخيل الآن ما يلي: يتقافز على ارض الملعب كنغر صغير عيناه على شكل علامتي الدولار $ وأذناه متشحتان بالسواد. هل تراه يقفز؟
 نحن الآن نرى الشيء نفسه. قد ترى أنت أرضية الملعب سوداء بينما أراها أنا في لون رماد السجائر. لكنها بالتأكيد داكنة. ربما مصباح الشارع عندك على يسار المشهد، بينما عندي هو - لسبب ما - على اليمين.
لا ضير أن يبث المصباح لك ضوءا أبيض بينما في عقلي ينبعث عنه وهج ناعم أصفر. لا يهم، في النهاية هناك ضوء صادر عن مصباح، ولو أردت أن تتخيله مصباح ديسكو يطلق أضواء كالتي تشعل حلبة الرقص جنوناً فلا بأس أيضا، البيت بيتك والخيال خيالك.
وعلى ذات المنوال: قد يكون قائم السلة في مخيلتي أطول او أقصر منه في مخيلتك، لكن هذه فروقات مقبولة، فلن أكتب مثلا: القائم طوله متران وخمسة عشر سنتيمترا والحلقة قطرها خمسة واربعون سنتيمترا. لن يكون نثرا ما أكتب هكذا.. بل سيكون كتيب إرشادات. 
لكن أهم ما في المشهد - كما يعلم كلانا - ليس الملعب ولا المصباح ولا حتى الكنغر، بل عينا الكنغر: زوج من علامات الدولار.
هاتان هما ما تراه أنت في هذه اللحظة.  قد تكون العينان مسلطتين عليك، يحدقان في أعماق روحك. أو قد تتخيلهما مصوبتين لفوق، لحلقة السلة. أو لحظة واحدة! ربما تتراءى لك العينان منجذبتين لضوء المصباح، مدهوشتين، وكأن الكنغر مسحور، وكأن عينيه مربوطتان - بخيط غير مرئي - بالمصباح، لا ترمشان.
أنا لم أحدد سوى شكل العينين. فيما عدا ذلك لك مطلق الحرية.
ها نحن ذا. أنا لم أفتح فمي بكلمة، ولا أنت فتحت فمك بكلمة. لسنا في نفس الغرفة. بل لسنا في نفس اليوم غالباً. لكننا قريبان، عقلي وعقلك الآن يتزاوران. 
أرسلتُ لك ملعب سلة وسطه كنغر يتقافز، واستقبلتَ أنت ذلك كله. إن لم يكن هذا توارد خواطر، فماذا عساه ان يكون؟
أحيانا أشرع في فعل الكتابة بخوف. كيف أتجرأ وأظن للحظة واحدة أني قادرة على الكتابة؟ في أحيان أخرى أجلس على مكتبي بحماس، مفعمة بالأمل.
أحيانا أكتب رغم أنني أسبح في بحر من اليأس: اليقين من أنني مهما حاولت، مهما ثابرت، سأعجز حتما عن تحويل ما في قلبي وعقلي لكلمات.
أحيانا أكتب لأتطهر من الألم، وأحيانا أخرى لأرد الجميل ...أو حتى لأنتقم.
وفي كل الحالات أكتب لأحكي لك، لك أنت يا من لا أعرف، يا من عقلي وعقلك الآن يتزاوران.

Comments

  1. راائعة يا نوران . جعلتينا نسبح معك فى الخيال،ليس معك بالظبط. بل كنت أسبح فى خيالين فى نفس اللحظة ،فى الحقيقة ثلاث خيالات فى نفس اللحظة اذا أخذنا بعين اﻹعتبارخيالى أنا

    ReplyDelete
  2. كلمات بسيطة .. عميقة
    تحسها بالوجدان قبل ان يفهمها العقل
    ربما هذه هي عبقرية الكتابة .. عبقرية القراءة, انا في عالمي وانت في عالمك اللون الازرق الذي تراه ليس بنفس درجة ولا ملمس اللون الازرق الذي اراه الان في عالمي انا .. انا وحدي بدون رقابة ولا وصاية منك انت يا كاتب القصة
    محمد العزبي

    ReplyDelete
  3. V .lovely story with brand new idea as usual , accurate details , it makes everyone happy as if living the events and feelings

    ReplyDelete
  4. وااااااااااااااااااااو أحببتها :)
    و اعجبني زوار عقولنا :)

    ReplyDelete
  5. تخاطر تواصل تسلل الى الاعماق ارسال الهواتف الروحية البعض يظنها خيال والبعض يعتقد انها سحر واخرون يصرون انها استخجدام للجان
    والحقيقة انها نفحات ورقائق يتمتع بها اناس وقدرات روحية تصنع العجائب منها ما هو مكتسب واكثرها مواهب ربانية

    ReplyDelete
  6. تخاطر تواصل تسلل الى الاعماق ارسال الهواتف الروحية البعض يظنها خيال والبعض يعتقد انها سحر واخرون يصرون انها استخجدام للجان
    والحقيقة انها نفحات ورقائق يتمتع بها اناس وقدرات روحية تصنع العجائب منها ما هو مكتسب واكثرها مواهب ربانية

    ReplyDelete
  7. لو هالد
    ولارات حقيقية

    ReplyDelete
  8. بس لو كانت الدولارات حقيقية كان تمام لان عم يطلع وماحدا عم يوقفو غير الكنغر ههههههههههههههههههههههههه

    ReplyDelete
  9. رائعة كعادتك نوران

    ReplyDelete
  10. كم أنت جميلة وأنيقة ورائعة في كتاباتك كما في كل شيء يانوران، يازهرة الصحراء...

    ReplyDelete
  11. أعجبني أسلوبك كثيرا، وأعجبتني فكرة تزاور العقول أكثر. دمتي بخير

    ReplyDelete
  12. انا من عشاق هذه الفلسفه في الكتابه لذلك ادعوك وادعو الجميع متشرفاً بك وبكم الى مدونتي
    www.samerjaber.BlogSpot.com

    ReplyDelete
  13. انا من عشاق هذا النوع من الكتابة لذلك ادعوك وادعوكم جميعاً واتشرف بك وبكم الى مدونتي
    www.samerjaber.blogspot.com

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام