ميم صاد راء

كل الاسقام تشفى الا حساسية الوجود على ارض الآخر. اريد ان انظر حولي فاجد اناسا تشبهني كما يقول رشيد نيني. الا اضطر لتبرير "تحشمي الزائد" في بلد ما اليوم ثم تبرير "تحرري الزائد" في بلد آخر غدا (دون ان يتغير في مظهري شيئ). احتاج اكثر من اي شيء لـ (هُنا) لا يتعين علي أن اثبت شرعية وجودي فيه. 
***
ذات صباح شتوي في السبعينيات أخذتني قدماي الحافيتان حديثتا العهد بالركض لحد مياه الخليج. لامستهما الامواج بترحاب فجلستُ القرفصاء وباصابع واثقة التقطتُ قوقعة. ألصقتها بشفتيّ فامتزج البحر بريقي. حادثتها بلسان طفولي مبهم ثم وضعتها على أذني. وشوشتني: "أنتِ غريبة هنا.. مهاجرة منذ كان عمرك عاما. أنت وأسرتك أغراب. لستم مثلهم وليسوا مثلكم".
لا بأس. ولكن، أين بدأ كل شيء؟ همَسَت: "هناك.. حيث النيل والقمح والشمس". هززت رأسي كأنني أفهم وملئت رئتي بالهواء المالح ثم تنهدت. في الحقيقة لم يعن هذا شيئا حينها. وفي ما تلى من عمر لم أعش في ذلك الهُناك سوى شهور، سنوات متقطعة تحصى على أصابع اليدين. لكن شيئا ما في نفسي تلقف تلك الكلمات كالحقيقة المطلقة. شيئ ما وجدني بين الميم والصاد والراء. "هناك" إذن هو الوطن.
***
عُشب الجانب الآخر دوما هو الأكثر خضرة. والهُناك يجب ألا يصبح أبدا هُنا لكيلا يتلف.
***
ما أشبه مسلسل الرحيل هذا بـ soap opera أمريكية سرمدية. قبل ان تتوطد معرفتي بالوطن حان موعد الحلقة التالية. شددت الرحال لبلاد الثلج والغيم والخضرة والانضباط والقسوة. ثم - وبنفس حتمية تعاقب حلقات الجريء والجميلة - سافرت الى الصحراء ودرجات الاصفر والانجليزية المفلبنة. والحل؟ في الهُنا والهُناك وما بينهما هو الحل نفسه: فليوصد باب البيت. فليؤتَ بالصغار كي احتضنهم واغمض عينيي وأدعو "الا نزعج احدا او يزعجنا احد".
***
من يستطيع ان يسلبك مصريتك؟ لندنيتك؟ كويتيتك؟ اذا انك أعلنت نفسك الآن امريكي الهوية، كنديا، استراليا.. أين المشكلة؟ كان إنسيا مثلنا بالمناسبة من رسّم الحدود. في يوم ما على فكرة كانت الأرض مشاعا. كلنا بشر. 
أعتقد ذلك.
***
اجيد من العربية خمس لهجات على الاقل. واتقن الانجليزية وبعض الفرنسية والايطالية. ولا أئتمن أيا مما سبق. لا يعبر عني - بأمانة - شيء. 
***
 تعريف كلمة immigrant في قاموس ميريام وبستر: الشخص الذي يسافر لبلد اخر بنية الاقامة الدائمة. 
الاقامة الدائمة.
كيف اشرح لتلك العجوز التي ترمقني من اخر القطار بكراهية واضحة أنني لا أنوي شيئا من هذا القبيل؟ هل أذهب فأجلس جوارها وأروي لها نبذة عن حياتي؟ هل أخرج من جيبي آخر شهادة ضريبية تثبت أنني لست لاجئة أعتاش من فتات دولة الرفاهية بل أنني actually أنفق ثلث دخلي كي تستقل هي وبقية العجائز القطار مجانا؟ الأجدر أن أطبع تلك النبذة في كتيب أوزعه على الركاب مجانا. أو أن أصنع بادچا أشبكه على صدري يقول:
لست لاجئة 
ولا مهاجرة 
(بموجب تعريف ™Merriam-Webster  يا قوم!)
***
على ذكر القطار، ذات مساء أبصر مخمور وديع زميلة تلبس خمارا مصريا تقليديا جالسة في القطار في أمان الله. نظر في اللاشيء وتساءل بدهشة حقيقية بينما سوائل أنفه تقترب حثيثا من فمه: من أذِن للراهبات بمغادرة الدير؟!
ذات مساء آخر انتظر مخمور أقل وداعة لحظة ترجلي من القطار ليرفع زجاجة البيرة في الهواء ويهتف: بلغي تحياتي لاسامة بن لادن!
المشكلة ليست في الحجاب ولا في لون البشرة ولا في شرب الخمر. المشكلة في القطار.
***
تعريف العبث: في الفين وستة تسلمت جواز سفر احمر انضم في الدرج الى اخيه الاخضر. أصبحت "مزدوجة الجنسية". لدي بدل الوطن اثنين. The more the merrier. اليوم أنا مواطنة كاملة الاهلية في بلدين لكنني أعيش في بلد ثالث لي فيه "كفيل" يُستأذن كلما وددت الخروج. 
***
أكمل الفراغ التالي: الوطن هو .....
يقولون: الوطن هو حيثما تجد قلبك. أي هراء مصفىّ هذا؟ ويشدو بول يانج مقتنعا: وطني هو حيثما أضع قبعتي. حسنا. ماذا عمن لا يرتدي قبعة يا حاج يانج؟ سأدلي بمحتويات دلوي التي لا تساوي اكثر من قرشين - أو فلسين.. أو بنسين (كلها لديّ عملات محلية). لو سألتني الآن سأقول: الوطن هو حيث يمكنك احتضان الصغير كل ليلة وترك دقات قلبه تهدهد رأسك المتعب حتى النوم. هو مكان ترى فيه حَمَلة جيناتك كل يوم -- ولا، لا يشمل هذا رؤيتهم عبر سكايب.
(ان لم يكن هناك أحد يحمل جيناتك فعليك أن تملأ دلوك بما يناسب ظروفك). 
***
رأيتك أمس فيما يرى النائم. كنتَ واقفا وسط جمع غفير وتتكلم بانفعال. تشير بكلتا يديك نحو اليمين ثم تضعهما أمام صدرك ثم تنقلهما الى اليسار. ثم مجددا، الى اليمين فالوسط فاليسار.. بدا لي أنك تستميت كي تشرح فكرة بدت مستعصية على فهم جمهورك. اقتربتُ حتى ابصرتني فصحتَ فيّ بحماس:
"في أول الخلق نثرتنا يد الله بذورا، (ثم مددت يديك إلى اليمين) نزل ثلثنا الاول على تربة خصبة فضرب جذوره ونما وازدهر. (هنا مددتهما امامك) وهبط ثلثنا الثاني بين الأشواك وبشق الأنفس تمكن من ضرب جذوره وأخذ يفتش عن ثغرة ينفذ منها نحو الشمس. أما الثلث الأخير.. (وهنا أشرت بكفيّك إلى اليسار واخفضت صوتك) أما الثلث الأخير فهوى بين الصخور، لم يجد موطئا لمد جذوره.. فطار! اصبح هشيما تذروه الرياح، وطار!". ثم أرخيت يديك الى جانبيك ونظرت إليّ معتذرا.. وهدأت.
***
وأخيرا: 

يقول: أنا من هناك. أنا من هنا
ولستُ هناك, ولستُ هنا
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لُغَتان, نسيتُ بأيِّهما
كنتَ أحلَمُ,
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ
منفىً هوَ العالَمُ الخارجيُّ
ومنفىً هوَ العالَمُ الباطنيّ

محمود درويش

Comments

  1. قطعة أدبية رائعة و راقية تتناسب مع المرحلة العمرية التى تمر بها البطلة و مع البلدان التى أقامت بها على اختلافها بوضوح و شفافية كبيرة

    ReplyDelete
  2. ويستمر مسلسل كراهية الغرب للأسلام والمسلمين، وذلك كله تحت ذريعة أنهم أرهابيين رجعيين بسبب تصرفات بعض المسلمين...الأرهاب تلك الكلمة اللعينة التي صدعوا رؤوسنا بها ليل نهار وتلك الذريعة التي استخدمتها أمريكا وحلفائها لضرب العراق وكثير من الدول المسملة لا لشيء إلا لنهب ثروات تلك الدول فيما يعرف بالحرب على الأرهاب. وهذا شيء متوقع منهم، فهم ليسوا بنو جلدتنا أو على ديننا في الغالب، لذا لن يرضوا عنا أبدًا، كما قال عز وجل في محكم التنزيل {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال ذلك عالم الغيب والشهادة قبل ظهور أسامة بن لادن أو حتى أمريكا نفسها بقرون، فهذا هو جوهر القضية. لكن ما يؤسفني حقًا هو أننا أصبحنا نستخدم هذه الكلمة ونطلقها على بعض المسلمين لا لشيء إلا لدحض ذلك المعارض لك في الرأي وإسكاته، مع العلم أن تلك التصرفات الأرهابية تُرتكب وتصدر من قبل البعض وليس الكل. لكننا أصبحنا نعمم هذا الحكم بالأرهاب بسهولة على فئة أو جماعة ما دون دليل على أرهابية جميع أفرادها وليس بناء على تصرفات أحد أفرادها، فكيف ننتظر من الغرب أن يتركنا وشأننا وإلا يصفنا بتلك الكلمة الشنيعة!!! لذا أقول وطني هو حيثما تصان كرامتي ويحفظ عرضي ومالي....وطني هو حيثما تُحترم أرادتي وذاتي وتديني...وطني هو حيثما أملك حرية الرأي الفكر والتعبير...هذا هو وطني ولذاك الوطن أنتمي.

    ReplyDelete
  3. ويستمر مسلسل كراهية الغرب للأسلام والمسلمين، وذلك كله تحت ذريعة أنهم أرهابيين رجعيين بسبب تصرفات بعض المسلمين...الأرهاب تلك الكلمة اللعينة التي صدعوا رؤوسنا بها ليل نهار وتلك الذريعة التي استخدمتها أمريكا وحلفائها لضرب العراق وكثير من الدول المسملة لا لشيء إلا لنهب ثروات تلك الدول فيما يعرف بالحرب على الأرهاب. وهذا شيء متوقع منهم، فهم ليسوا بنو جلدتنا أو على ديننا في الغالب، لذا لن يرضوا عنا أبدًا، كما قال عز وجل في محكم التنزيل {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال ذلك عالم الغيب والشهادة قبل ظهور أسامة بن لادن أو حتى أمريكا نفسها بقرون، فهذا هو جوهر القضية. لكن ما يؤسفني حقًا هو أننا أصبحنا نستخدم هذه الكلمة ونطلقها على بعض المسلمين لا لشيء إلا لدحض ذلك المعارض لك في الرأي وإسكاته، مع العلم أن تلك التصرفات الأرهابية تُرتكب وتصدر من قبل البعض وليس الكل. لكننا أصبحنا نعمم هذا الحكم بالأرهاب بسهولة على فئة أو جماعة ما دون دليل على أرهابية جميع أفرادها وليس بناء على تصرفات أحد أفرادها، فكيف ننتظر من الغرب أن يتركنا وشأننا وإلا يصفنا بتلك الكلمة الشنيعة!!! لذا أقول وطني هو حيثما تصان كرامتي ودمي ويحفظ عرضي ومالي....وطني هو حيثما تُحترم أرادتي وذاتي وتديني...وطني هو حيثما أملك حرية الرأي الفكر والتعبير...هذا هو وطني ولذاك الوطن أنتمي.

    ReplyDelete
  4. أكثر من رائعة يا نوران .. كيف فاتني قرائتها من قبل ؟؟ وطنى هو مصر مهما حدث مهما كر هنا فيها "أشياء ، تصرفات ، ناس ،... أيا كان ما نكره" أو فلنقل أياَكان ما لا يعجبنا .فيها.. ذكرتني كلماتك بأغنية لريهام عبد الحكيم " فيها حاجة حلوة" .. فعلاَ فيها حاجة حلوة

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة