لحظة.. أو أقل



في الصباح أمد يدي فألتقط زجاجة ماء من الثلاجة كان قد شرتها لي، أصب معظمها في غلاية الماء - هديّتها لي - ثم أتجرع ما تبقى. يرطب إحسانها جوفي، يسري معروفها في عروقي فتستيقظ أحشائي، ثم أصنع فنجانا من النسكافيه من برطمان شرته لي وأضيف له بعض الحليب الذي - نعم - شرته هي أيضا لي قبل مماتها. يبدد عطاؤها نعاسي ويمنحني عشرين دقيقة تنبيه كافاييني سأحتاج لمثلها قريبا - فورا.

أصلّي كما علمتني وأنتعل حذاءها ويدثرني معطفها وأرمق عينيها في المرآة - تطالعانني من محيّاي أنا… أي نعم عيناي داكنتان بحدِّةٍ لا تتسق مع نعومة ورقّة ورمادية/خضرة/عسلية عينيها، لكنهما عيناها! بعد سنوات عشر أو عشرين أو ثلاثين سيتهدل الجلد في جفني الأعلى - المشدود الآن - وذات يوم قد يقبّل تلك الثنية المجعدة ابني كما قبلت أنا ثنيتها هي المجعدة فلم تستيقظ رغم قبلتي من سباتها الأخير! 

أتصنع تفاؤلا زائفا وألقي على نفسي - عليها - تحية صباح غاضبة مشوبة بتحدٍ لا أفهمُ مبررَه .. “صباح الخير!” ثم أسترق نظرة للساعة تخبرني ما أعرفه سلفا: متأخرة كالعادة. ورغم هذا لن أحرم نفسي من لحظة، بل سأقنع بأقل، أجلس فيها حيث جلست هي آخر مرة زارت بيتي، قبل الرحيل بيوم، توسَطت يومها الأريكة الزرقاء ووضَعَت ساقا فوق ساق وأمسَكَت بالهاتف في يد وبالنسكافيه في الأخرى، أجرت المكالمة وراء الأخرى على مسمع مني، أناس كثيرون، جولة وداع للأحباب لا يعيها المودِّع ولا المودَّع. 

ولاحقا، في لحظة أو أقل، حادث موت على الدائري نجد نفسينا فيه قبيل الظهر، السائق وأنا. وفي لحظة أو أقل ننجو جميعا فلا يصاب أحد - على حد علمي - من بين ركاب سيارات كثيرة جمعتها اللحظة. وبين اللحظتين: أهمس وأنا انتظر أن يرتطم بنا من هم وراءنا: "أشهد ألا اله الا الله وأن محمدا رسول الله”، أبقي عيناي مفتوحتين - لن أذهب مختبئة وراء جفون الجبن! - وأردد الشهادتين وبمنتهى الرضى، برضىً لا يمكن تصنعه أو شراؤه بالذهب ولا بالماس. لو أن هذه النهاية فشكرا من قلبي على ما مضى! لن أضيع حلاوة العمر بنوبة سخط طفولية من انقضائه! قادمة أنا يا أمي فتأهبي لقدومي كيفما تتأهبون في ظروف كهذه معشر الموتى!

في ركن قصي من عقلي تخبرني فلول فيزياء لا زالت تطفو وسط أطلال رياضيات أنه لو كان مقدرا الارتطام لكان زمانه وقع، فأي منا لم تقل سرعته عن المائة كيلومتر في الساعة، والمسافات متقاربة، وبحساب السرعة والمسافة فالزمن ولى وفات أوان الكارثة. ثم أفيق على: لا شيء، يصم أذناي الصمت. لا ارتطام، ليس اليوم!

وفي المساء، أحوم وأحوم حول المقهى الذي جلسنا فيه أنا وهي آخر مرة، كنا ننتظر دخول السينما، ثم جلَسَتْ ها هنا: محل تلك المراهقة المحجبة الملائكية ذات البشرة الحليب. أحوم حول المقعد لعله يخلو. أتذكر الرجل الذي شغله في المرة السابقة، زوج وأب وحوله عائلته، درت يومها حولهم كثيرا لكن جلستهم طالت، فدرت وحمت وطفت ولففت وأخيرا مشيت. اليوم تشغله الملاك الحليبية البشرة، واليوم أيضا، بشيء من الحظ، دوري أنا.

أحوم وأنتظر وأتذكر كيف اخترت يومها دونا عن غيره فيلم أكشن ضحك أولادي من فرط لا ملائمته لـــ “ننّة”.. "ننّونتي" كما ناداها الصغير، قال ابني لي بعدها: يا ماما! انه فيلم مناسب للمراهقين الذكور المفعمين بالتيستوستيرون! التفتُّ نحوها في وسط الفيلم، في لقطة هجوم الوحش الخرافي على الصبية الذين سينجون طبعا بل وسيهزمونه مع أنهم مسلحون بأفرع شجر غضة كأذرعتهم ذاتها. استشعرتها جانبي صامتة حريصة على عدم إحراجي، فحل الإحراج على الفور! قلت: "أنا آسفة والله!"، فجاء ردها: نصف ضحكة.. وبشاشة.. وفكاهة تجلت شقاوة تتراقص حول العينين، قالت: "ادينا شفنا حاجة مختلفة!”

نظرة سريعة على المقعد فاذا به خلا. أهوى فيه وأدعها تحتضنني وأسمح لعيناي أن تغمضا لثانية. تلح علي من حيث لا أدري ضرورة أن أخلّد ما كانت تحب، هناك حاجة ملحّة موجبة ملزمة بأن أتذكر دوما ما كانت تحب! وكأنني لن أرى خيرا قط إن أنا نسيت! لأشرع فورا - وعيناي لا زالتا مغمضتين - في وضع قائمة ذهنية مبدئية لن تكون - حتما - موضوعية بل ولن تخلو من نرجسية؛ فهي قائمة محبوبات أمي من منظوري أنا.

حسناً... كانت تحب: الفزدق، شعر الامام الشافعي، رواية يوميات نائب في الارياف، الاستماع لي في راديو بي بي سي، ضاحية بروملي اللندنية، سنوات طفولتها في السودان والقناطر، المدينة المنورة، النظافة اليومية الشديدة، تلاوة القرآن وبالذات يس والكهف (كل جمعة)، مدينة الرحاب، الاماكن الفاخرة والاشياء الانيقة، النسكافيه، القهوة التركي المضبوطة بين الافطار والغداء، الشاي السادة الخفيف مع العشاء، الشوكولاتة، المونوپولي، الانجاز وبلوغ الأهداف، الطموح، الكفاح والمكافحين، جريدة الأهرام وبالذات بريد الجمعة أيام عبد الوهاب مطاوع، الفيسبوك، التجمعات العائلية، الناس! كم كانت تحب الناس!!! 

أسمع وقع أقدام النادل تقترب فأعتصر جفوني وأمعن في التأمل قبل أن تنفد اللحظة أو أقل المتبقية حتى يصل وفقا لحساباتي الرياضية! لا أدري فيم العجلة وما الذي يجب أن يحدث قبل أن يصل الرجل.. ولكنني أركز وأركز. أرى فيم أرى أريكتي الزرقاء وأسمع صريخ فرامل وأشم شياط أسفلت الدائري وتلمع وسط كل هذا ومضات فيزياء ومعادلة حسابية تقول: الزمن يساوي المسافة على السرعة ولكتلة الجسم المتحرك غالباً علاقة ما بالموضوع! أتأمل هذه الحياة ومن غادروها.. ويزلزلني من الأعماق أن من واراه حجاب الغيب تفصلنا عنه غلالة رقيقة.. تفصلنا عنهم لحظة واحدة... أو أقل!

Comments

  1. ياااااه يا نوران ..جميلة جداً , و أعتقد في هذه الحالو التعليق الوحيد المعبر فعلاَ هو
    " No Comment"
    أبكيتيني فعلاَ يا نوران
    بس هاعلق التعليق اللي كانت بتحب تقولهولك دايماَ ً Well Done
    .

    ReplyDelete
    Replies
    1. اترددت اني ابعتهالك عشان عارفة انك هتعيطي 😥

      Delete
    2. More than amazing ya Nora, full of life and vitality. Your description is so detailed that one can feel the tiniest issue, Momy's color of the eyes, her elegance, ....even the fold on her eye lid!
      الله يكرمك و يعزك يا نورا، و يسامحك أيضا علي تجديد البكاء على مامي الحبيبة
      بجد الحياة بيها كانت حياة
      اللهم اكرمنا ببرها بعد أن توفيتها

      Delete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة

ميم صاد راء