Skip to main content

ذاتي الصغيرة العزيزة

ذاتي الصغيرة العزيزة

طُلب منا اليوم ان نكتب رسالة لذاتنا التي هي في السادسة عشرة. فرحنا كصغار تحدد لهم المعلمة الواجب. انت لا تعلمين هذا ولكنني عدت لمقاعد الدراسة. الآن وفي السادسة والخمسين! مفاجأة كبرى أليس كذلك؟

خف الحمل (ولكن لم تستقم انحناءة الظهر ولن تستقيم) فقررت دراسة محبوبتك العشوائية تلك المسماة بالكتابة الابداعية. اتعرفين ذلك الشعر الرديء الذي تخطينه الآن مبللا بالدموع وتفضلين الموت على أن يراه أحد؟ يبدو لي وكأنها بوادر موهبة. احيانا اندهش ممن يصفون ما اكتب بأنه ذو قيمة تذكر. لكنهم كثر والاحتمال ليس بكبير - احصائيا - ان يكونوا جميعا مجاملين. 

الآن الى القليل من "كشف المستخبي" على طريقة الأفلام العربية القديمة: ستتعرضين بعد عامين او ثلاثة لضغوط شديدة من قريبين  - انتبهي لم اقل مقربين - كي تسلكي سلوك القطيع. لا تنصاعي. قد يبدو لك الأن ان إرضاءهم غاية الأمل وأنه خليق بأن يجعل حياتك اسهل كثيرا. لكن المفاجأة أن السبل ستتفرق بكم وتظلين انت حبيسة اختيار اتخذتيه وانت بعدك صغيرة. لن تكون 
لديك القوة للتراجع عنه لذا لا تتخذينه اصلا. "إرضاء الناس غاية لا تدرك" تظل لديك مجرد مقولة يعجبك وقعها ولكنك لا تعملين حقا بها.

 تخالجك من الان هواجس عظمى حيال هؤلاء ولكنك تظنين انهم دوما محقون بسبب غرورهم وأنهم (يبدون على حق). ستقابلين كثيرين في حياتك يعتبرون أنهم يحتكرون الحقيقة. لا احد يحتكر الحقيقة. دعيني اكررها: لا احد يحتكر الحقيقة.

تنظرين لنفسك بعيون الآخرين. تحاولين في كل لحظة ان تتخيلي كيف تظهرين أمامهم وكثيرا ما يقض هذا مضجعك. تحملين كلماتهم أكثر مما تحتمل وتعطينهم أضعاف ما يستحقونه من أهمية. ستعلمك الايام أن تنظري لنفسك من خلال عينيك أنت وحدك

لا اريد ان اصور نفسي وكاني العالمة ببواطن الامور التي أتتك من عالم الغيب لتنقل لك خلاصة فلسفتها في الحياة. فما ابعد هذا عن الواقع. مجرد امكانية أن تكون لدي فلسفة تثير لدي الرغبة في الضحك. أنا؟ من بتُ لا اكاد افهم شيئا مما يدور من حولي: العلاقات الانسانية.. المتبدلون.. المتحولون.. من كثرة ما رأيت اصبحت لا أفهم شيئا: كل يوم يمر يتآكل داخلي مخزون الحكمة الذي كنت أعول عليه كثيرا.

في الحقيقة أشتاق إليك كثيرا هذه الايام. اشتاق ليقينك. تعجبني الطريقة التي تتلقفين بها ما يرمى نحوك من كرات أفكار ثم تمضين. أحاول جاهدة أن أكون مثلك: ألا اتوقف عند كل فكرة مسلم بها. أنت يا صغيرتي لا ترهقين عقلك في مسائل حسمها "الكبار" قبلك. كم سهلة هي حياتك مقارنة بي!

هلا ذكرتيني كيف أدخل اي مكان فأتعامل مع الجميع بارتياح وكأني اعرفهم طوال عمري؟ وكيف أنسى الاساءة، لا عن سعة صدر بل عن لامبالاة حقيقية؟ ثم من اين لك بالله عليك بالعزيمة على التهام الكتب التهاما؟  اتردد كثيرا الآن قبل قراءة كتاب جديد وافضل اعادة قراءة ما احب. الكتب الجديدة تزلزلني واظل اسابيع بعد الانتهاء منها اعيش وقائعها وأتألم لألم شخصياتها. 

أيتها الزهرة البرية البريئة: ستفتح دنياك ابوابا كثيرة ويلفك الزحام والصخب. سيأتي يوم تشعرين وكأنك مركز لكون صغير: الكل يحتاجك.. يستشعرون غيابك ولو طال لحظات، امور لا يمكن ان ينجزها سواك. ستتمنين دقائق من السكون وتتطلعين لنصف ساعة تكونين فيها وحدك بالبيت. 

ثم... تنغلق الابواب واحدا واحدا. 

وتتبدد قيمة الاشياء. 

لن يبق لك حينها سوى كتاب تقرئينه وآخر - زئبقي - تجاهدين لكتابته، وتتلذذين بطول الجهاد.

محبتي



Comments

  1. نص جميل وجديد بلا شك، كنت اتوقع ان تخرج منك كتابات من هذا المستوى، وان متأخرا، اعجبني تدفق الافكار وتسارعها حتى بدت كأنها مقتطفات من كرسي اعتراف، لا بد انك لاحظت ان كبار الكتاب لا يخشون المستور ولا يترددون في اظهار شكوكهم وظنونهم وحتى ترهاتهم وذنوبهم، هذا احد العناصر الحاسمة في العمل الابداعي.. لكن رحلة الكتابة، من منظور فردي، يمكن ان تكون جهدا نحو نيرفانا شخصية، تطهّر من متراكم قديم، انفتاح على جديد غامض، واستعراض لادوات ما كنا نتخيل انها فينا... في انتظار المزيد، والاقوى حتى الصدمة.. دوما حيدر

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة