ما كان ممكنا..لو!

لكنني لا أشعر بالراحة.

أو بمعنى أدق، راحة مقارنة بماذا؟ لم أجرب الوضع الاخر كي أقارن. اعتمادا على ما أسمع نعم. بالتأكيد سأصل إلى استنتاج يوافق نظرية "الراحة" تلك. فأنا أنام وأصحو في مواعيد آدمية. ولا يمكنني ان أصف حياتي بأنها محفوفة بالمخاطر مثلا. بل غالبا لا أخرج من المنزل إلا بصحبة زوجي أو أحد أبنائي ومنهم من يفوقني طولا الآن.

يقول لي دائما: "انت في راحة تُحسدين عليها". لكن الارهاق الدائم هو الوصف الوحيد السليم لحالتي اليومية ولا أعرف كيف تضيف الأخريات من بنات الجنس الفضائي المسمى بالمرأة العاملة إرهاقا على ارهاق. ألستُ في حركة دائبة منذ أفتح عيني إلى أن أنهار في فراشي كجثة في فيلم بوليسي أمريكي كما يصفني هو نفسه؟ توصيل للمدرسة ثم للبيت ثم لدروس الباليه والسباحة والحساب والانجليزي وما يتخلل ذلك من طبخ وتنظيف (تنظيف الشقة وبعض ساكنيها أيضا) ومساعدة في عمل الواجب المدرسي (وعمله بنفسي احيانا) وتبضع ودفع فواتير وشراء الكسوة الصيفية والشتوية والتمريض والمجاملات والطبطبة والتهديد وكي الملابس ونشرها (على أنغام نكتة يطلقها أكبر الأبناء كل مرة وكأنه طقس ما: "أستحلفك بالله أن تنشريها!")

يؤكد لي أن نجاحي الحقيقي هو نجاح أولادي لكن قانون الاحتمالات يبدو عادلا جدا في هذا الخصوص فمن بين أولادي المتفوق والمتوسط والضعيف ومن أولاد العاملات كذلك. 

أشفق عليه أحيانا فهو سليم النية ولا يريد إلا تهدئة خاطري كلما سألت نفسي ذلك السؤال الخالد عن "ما كان ممكنا أن يكون لو..." لكن الواقع يحرجه غالبا. مثل ما حدث هذا الصباح عندما قال لي بصوت واثق: "أبناء الأم غير العاملة أكثر سعادة واستقرارا نفسيا من أبناء العاملات". كأي زوجة مثالية نظرت له باهتمام بالغ ينافس حرص تلامذة سقراط على الاستزادة من علمه رغم اني سمعت منه مقولات كهذه آلاف المرات على مر السنين. كانت نظرتي فعالة على ما يبدو لأنه سخن أكثر وتهدج صوته وجحظت عيناه من فرط اليقين: "يكفي شعور الابناء بالامان المطلق لأنهم يعلمون أن أمهم تنتظرهم في البيت كل يوم بلقمة ساخنة وهدمة نظيفة. إنه احساس داخلي بالسلام. السلام!" 

في عز ذلك السلام أتانا صوت الابنة الوسطى تقول لشقيقتها - لحمها ودمها - : "يارب تموتي بقى يا شيخة! أنت جيتيلنا منين كنا مرتاحين قبل ما تتولدي". تظاهرت أنني لم اسمع شيئا وواصلت التحديق فيه بنظرة ثابتة توحي باستغراقي في الانصات لما يقول: "وجودك باستمرار في البيت يمنع أن يعكر صفو الأولاد أي منغص مهما كان. أحدثك عن صفو أبدي! أو أبدٍ صافٍ... كما تريدين". رغم كل ذلك الصفو تناهت من الشرفة اصوات خبط ورزع تعرفت عليها فورا. صحتُ بأعلى صوتي: "لو رميت كتبك في الشارع تاني يا محمود عشان مش عارف تحل الواجب وديني لاكون مبيتاك بره البيت الليلة دي."

بإصرار يثير الاعجاب في الحقيقة وضع فنجان القهوة على الطاولة كي يتمكن من التعبير بكلتا يديه: "أؤكد لك. يكفيك من المجد فخر ابنائك بك. فمثلا..."

لم ينه الجملة لأن آخر العنقود السكر المعقود دخلت علينا تتواثب بمرح وقالت: "آية صاحبتي مامتها مخرجة في التلفزيون وهييجو يصوروا في مدرستنا بكره!" أطرقَت وأكملَت بصوت خفيض: "وفاطمة مامتها مدرسة عندنا، كل يوم تيجي تطمن عليها في الفصل. وهبة مامتها موظفة و..."

ثم رفعت رأسها وسألتني ببراءة لا تتأتى إلا لطفلة في السادسة: "هو انتي ليه يا ماما ما بتشتغليش؟"



Comments

  1. الحقيقة ان الكلامات لا تستطيع ان تعبر عن مدى سعادتى لكاتبه عظيمه ورقيقة مثل نوران سلام ان تسلسل الافكار والاسلوب ينبىء عن كاتبه جديرة بان تتبوا الصفوف الاولى فى عالم الروايه العربيه هذا اقل شىء يمكن ان اعبر بى عن سعادتى لانسانه رقيقه ومحترمة مثلك واعتقد ان لديك كاريزما قويه تجبر القارىء على متابعه القصه الى النهايه اسلوب شيق وفقك الله وزاد من حب الناس لك و لكنى معترض فقط على ان هناك زوجه مثاليه تستطيع ان تقوم بكل اعباء الحياة بمفردها

    ReplyDelete
  2. اتمنى ان ارى قريبا الطبعه الاولى من كتاب نوران سلام فانتى جديرة باصدار كتاب يحتوى على كل القصص الجميله الموجوده بمدونتك .والجميل فى كتابتك ان القارىء يرى فى اسطر قليله كل ما يريد دون ان ينتظرعده صفحات حتى يفهم مضمون الروايه اسلوبك شيق ويجمع بين الفصاحه والبساطة وروح الشارع المصرى لقد استطاعت الاستاذه نوران ان تجبرنى على العودة لقراءة الروايات المصريه بعد فترة ليست بالقليل من عدم الاكتراث بما هو عربى والاهتمام بالقصص واروايات الايطاليه التى بها روح الشعب المصرى هذا الكتاب سانتظره لانه سيكون كتاب شيق وسيكون وجبه دسمه لكل من سيقرئه

    ReplyDelete
  3. انا لست ناقدا ادبيا وبضاعتي مما قرات من الروايات لا تكاد تتعدى الخمسين لكني اجد نفسي اما اطروحات تتسم بالحيوية والرقة وتعبر بشكل واضح عن الادب النسائي ان جاز لي التعبير حيث اني ام استطع التغافل عن ادق الجزئيات لان اسلوب السرد مترابط بشكل قوي وشيق.
    الى الامام..................

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة