شقة ستة


-1-

محاولة فاشلة لتحضير سندويتش جبن


 كانت بدايته عادية ذلك اليوم الذي أتممت فيه عامي الثاني عشر.
فكالمعتاد دق جرس المنبه. وككل صباح لم تصح امي، وكدأبي لم أتضايق. امي  ليست من الصنف الصباحي من البشر. ثم أنها ايقنت أنني لن أتناول وجبة الإفطار قبل الخروج الى المدرسة.
ارتديت زي المدرسة وانا افكر في الهدية التي سأطلبها من أبي اليوم. سيأخذني مساء لاختار ما اريد بنفسي من المركز التجاري. اخذت أمشط شعري واتخيل رد فعله وأنا أطلب جهاز ووكمان . على الارجح لن يفهم طلبي وسيتعين علي بعض الشرح.
فتحت التلفزيون لمشاهدة الرسوم المتحركة (رغم أن مشاهدتها صباحا تصيبك بالغباء طبقا لأمي). عظيم.. إنه بشار! حلقة اليوم تتحدث عمن تفضله تلك النحلة ذات الاسم الذكوري من شخصيات. شخصياته المفضلة وشخصياته الكريهة التي يسميها تأدبا "شخصياتي غير المفضلة".
شربت زجاجة كوكاكولا (رغم أن تناولها على معدة فارغة يسبب القرحة طبقا لأبي. الحمد لله أنه يغادر مبكرا للمستشفى). تذكرت بعد رشفتين أن أضع في الزجاجة أقراص النعناع كما نفعل جميعا في المدرسة هذه الايام. وضعت اربعة أقراص وسددت فوهة الزجاجة بإبهامي ورججت الزجاجة. لم ارج كثيرا حتى لا تنفجر الكولا وتغرق البيت. فعلتها أمس في المدرسة وسط صيحات الاعجاب من زميلاتي اللاتي شكلن حلقة أنا مركزها. لكن من سوء الطالع أن مرت المديرة في لحظة الانفجار بالذات. لم تشفع لي جيرتنا انا والمديرة، ولم يكن ما تلا ذلك جميلا.
حملت حقيبتي ونزلت أنتظر باص المدرسة امام بوابة البناية.
كل شيء سار طبيعيا اذاً. بامكاني ان اتفلسف فاقول ان قلبي كان منقبضا منذ الصباح لكن هذا لم يحدث. فالحقيقة أن أول ما شذ عن المألوف وقع بعد عودتي من المدرسة:
شقتنا - رقم 6 - تقع في الطابق الثاني والأخير من بنايتنا الصغيرة. شقة 2 تقع تحتنا مباشرة وتعيش فيها مروة، التي كان الجميع لسبب ما يعتبرونها أعز صديقاتي. صعدت السلالم بعد نهاية اليوم الدراسي، وفي نفس اللحظة التي مررت فيها امام شقة مروة فتح الباب. تلك الوقحة! انها بالتأكيد كانت تتسمع لصوت قدمي حتى تطالبني برواية عبير التي استعرتها منها بالأمس فقط! تنسى!
لكن من خرج كان والدتها - مديرة مدرستنا وبالتالي ليست "شخصيتي المفضلة".
-ما تيجي يا رانيا ..ادخلي شوية عندنا
أذهلني عرضها بقدر ما أذهلني فتح الباب المفاجئ.
- لا مرسي يا ميس مش هاقدر.
-ليه؟ تعالي اتغدي مع مروة.
توقيت فتحها الباب بالتزامن مع مروري أمامه بالضبط جعل وجهها قريبا جدا مني..لو شئت لاستطعت عد الشعرات البارزة من فتحتي أنفها.
-اصل اكيد ماما مستنياني.
هممت بالصعود لكنها قالت
-لا ما اعتقدش مامتك فوق.
-.................
-ولا باباكي
-يمكن خرجوا يا ميس. بس انا معايا مفتاح.

في شقتنا تبين فعلا ان ابي وامي غير موجودين. استغربت الامر، فأبي على الاقل مضمون وجوده في المنزل. يذهب للعمل مبكرا ويعود مبكرا ولا يخرج ثانية الا فيما ندر. أما أمي فلا تعمل. ان خرجت للتبضع تحرص ان تعود قبلي الى البيت. فأنا الصغرى التي جاءت "على كبر" بعد أربعة من الأبناء الذكور لا يقيم أي منهم معنا الآن. تفرقوا ما بين دراسة وعمل. ظن الوالدان أنهما على وشك أن ينعما بالراحة لكن القدر كان يخبئني لهما. . 
لم يزعجني اختفاؤهما. بل شعرت بنشوة الاختلاء بنفسي في البيت. ففي الأغلب لن يتيسر لي إلا دقائق يعود والداي بعدها. أسرعت للثلاجة وأحضرت زجاجة كوكاكولا أخرى. أضفت حبتي نعناع وراقبت الرغوة التي أحاطتهما بمجرد نزولهما وكأن الكولا ترحب بضيفين عزيزين. جلست في كرسي والدي - أفضل مقاعد الصالون. هذا المقعد المميز يقابل التلفزيون تماما، ثم إن الجالس عليه - كما يقول أبي - يواجه القبلة ومن بعدها ارض الوطن..مصر.
لكنني لن أفتح التلفزيون الآن.. بإمكان الرسوم المتحركة أن تنتظر. أخرجت من حقيبتي رواية عبير التي استعرتها (للأبد) من مروة. عنوانها "الوجه الآخر للذئب". إنها لذة في حد ذاتها أن أقرأ رواية من روايات عبير دون أن اضطر الى اخفائها عن عيون والدي في كتابي المدرسي .

لتسعد جين جدتها التي تحبها كثيرا، وافقت على الزواج من ليون شوفيتي. لكن لكل واحد منهما ارتباطات سابقة. قالت الجدة لجين: لا تقلقي. سيتخلى ليون عن كل صديقاته من أجلك. لكن جين كانت تعرف أن ذلك لن يحدث الا لو تحول الجحيم لحلبة جليد.

بداية مبشرة. لكن غيظي من مروة منعني من التركيز. تلك اللصة سطت على كتبي الثلاثة (زواج بالاكراه، أسيرة القيصر، ووجوه الغيرة) ثم ادعت أنها فقدتها. هل يفقد المرء ثلاثة كتب دفعة واحدة؟ هل تظنني غبية؟ الآن حانت فرصتي للانتقام: سأعيد لها كتابها "عندما يتحول الجحيم لحلبة جليد".

لا أدري كيف تسلل الى عقل الجميع انني وتلك المروة صديقتان حميمتان. زميلاتنا في المدرسة يفترضن ذلك. بل وحتى المدرسات: اليوم صباحا فقط رأتنا معلمة اللغة العربية ننزل من الباص فهتفت: "هو انتو الاتنين دايما مع بعض كده؟" ثم أطلقت ضحكة رنانة.
حقاً..بعض النساء يثرن الشفقة. خاصة المسنات منهن ممن تجاوزن الثلاثين كتلك المعلمة.
انهمكت في القراءة حتى خفت ضوء النهار. هل تأخر الوقت لهذه الدرجة؟ نظرة خاطفة على النافذة اكدت لي ان  الشمس وإن كانت لم تغرب بعد الا انها بالتأكيد تهدد بذلك. قمت اشعل النور لكنني لم أفعل. لو فعلت سيكون إعلانا رسميا بحلول الليل. ولا يمكن السماح لليل بالحلول قبل أن يعود والداي، صح؟
فتحت التلفزيون ووجدته على نفس القناة التي تركته عليها صباحا: قناة الرسوم المتحركة. شاهدت حلقة من الرجل الحديدي وأخرى من غرندايزر ثم قرصني الجوع.
 لم يدخل جوفي طوال اليوم شيئ سوى الكوكاكولا وأقراص النعناع. جهازي الهضمي معتاد على هذا لكنه معتاد ايضا أن اتغدى مع امي وابي فور عودتي للبيت.
قمت أنظر في ساعة الردهة. يا للهول! الرابعة والنصف! الرابعة والنصف؟ مضى علي في البيت ثلاث ساعات ولا حس ولا خبر من احد؟ في مثل هذا الوقت عادة نكون قد انتهينا من الغداء بل ومن الواجب المدرسي، ويكون ابي وامي في عز إغفاءة القيلولة. في مثل هذا الوقت يكون السكون قد خيم على المنزل بعد ضوضاء الغداء والتنظيف والكلام. لكنه يكون سكونا أليفا، لا يمت بصلة للوجوم الحالي. طنين أجهزة التكييف اصبح ملحوظا. وصوت قطرات الماء التي تنزل كل عشر ثوان من صنبور الحمام بدا مدويا، واسعا، يتمدد في البيت كله. 
لما صار الجوع وحشا صغيرا يعربد في معدتي فعلتُ شيئا استثنائيا: دخلت المطبخ لابحث عما آكله. بقى كده؟ في نفس اليوم الذي أتممت فيه الثانية عشرة سأقوم بمهام الكبار؟ كان ابي (نادرا) وامي (عادة) متكفلين بموضوع الطعام هذا. ليس بالضبط من قبيل تدليلي بقدر ما كان تقسيما طبيعا للأدوار: عندما يحين موعد الطعام يعده احدهما، واستهلكه أنا. قبل اليوم لم أدخل المطبخ الا للنهب والسلب، غايتي لم تتعد أبدا الكوكاكولا، والشوكولاتة إن وجدت. اما الأطعمة "الحقيقية"، الأطعمة المملة من قبيل الارز واللحم فعلاقتي بها تنحصر في أكلها.
دخلت اذاً غير مسلحة باي مهارة. وجدت الثلاجة شبه فارغة. تذكرت امي وهي تقول بالامس انها ستتبضع غدا لان "الثلاجة بقت شبه الربع الخالي". ربما لهذا تاخرت؟
وجدت كيسا من الخبز به رغيفان ممتعضان، ربما أزعجهما أن أحدا  لم يفكر في تناولهما حتى بلغ بهما الكبر عتيا.
أخرجتهما من الثلاجة وحدثتهما: "خلاص فرجت، واحد فيكو هيتاكل.. ومين عارف؟ يمكن انتوا الاتنين!" وجدت ايضا جبنا ابيض في علبة. أمسكت سكينا واخذت احاول ان افرد الجبن على الخبز كما شاهدت امي تفعل عشرات المرات. عندما تفعلها هي يبدو الأمر سهلا جدا..فلماذا ألاقي أنا الآن كل هذه المقاومة؟ رفض الجبن بإباء ان يدهن على شقفة الخبز الاولى فتقطعت اوصالها من كثرة المحاولة. القيت بها في صندوق القمامة.
مع الرغيف المتبقي لم أغامر بفرد الجبن. وضعت كتلة في وسط الخبز ولففته وبدأت اكل. برودة السندويتش نبهتني الى انني كان يفترض أن أسخنه في مرحلة ما. لكنني لن أكلف نفسي عناء المحاولة. قررت أن آكل الرغيف التعس بأكمله هكذا: وقوفا في المطبخ. فتحت فمي لتناول المزيد لكن جرس الباب أوقفني.
هذا يوم  الاندهاش. 
تصحيح، هذا يوم الاندهاش ممن يظهر خلف الباب.



-2-

فزورة


طنط سعدية، التي تقطن شقة 7 الملاصقة لنا، لم تكن هي الاخرى من شخصياتي المفضلة. قد يجعلني هذا أبدو غير اجتماعية، أو سايكوباتية كما يقول أبي عندما يستعرض ثقافته الطبية أمام ربات البيوت من ضيوف أمي. لكنني من الشجاعة لاعترف ان قائمة شخصياتي المفضلة أقصر كثيرا من قائمة شخصياتي غير المفضلة.
الغريب في حالة طنط سعدية تحديدا أنها كان يجب أن تكون من أعز الناس إلى قلبي. فهي أم اثنين من أهم الناس في حياتي حاليا ومنذ زمن: علي وأحمد. تروي أمي إنني لما ولد علي وكنت أنا في الثانية ظننته لعبة. ولما ولد أحمد كنت في الثالثة وظننته أخي. تقول إنني بكيت لما احتفظت به أمه، وفجعت أنه لن ينام عندنا في البيت. العنوان الابرز لطفولتي كان وما يزال لعب كرة القدم في ساحة البناية معهما.
لسبب ما لم تكن طنط سعدية تحب امي ولم تكن امي تحبها. ربما كان السبب فارق السن، فأمي اكبر كثيرا. هذا الفتور بين الاثنتين انعكس على علاقة طنط سعدية بي. فبينما كانت تهش وتبش لرؤية مروة وبقية اطفال البناية كان وجهها يتخذ شكلا معينا لرؤيتي، شكلا يذكرني بمنظر المتجر الصغير أسفل البناية عندما يكون الباب مقفلا وعليه يافطة تقول: "مغلق". 
لكل ما سبق اندهشت لرؤية طنط سعدية بالباب.
-اهلا يا طنط. ماما مش موجودة.
-ايوة ما انا عارفة. ماما وبابا سافروا مصر النهارده. ومامتك وصتني قبل ما تسافر أخدك تقعدي عندنا.
-سافروا؟ سافروا ازاي؟ بالطيارة يعني؟
كنت أحاول التركيز كمن بوغت بلغز، بفزورة. نفس الشعور الذي انتابني اليوم عندما كتبت المعلمة كلمة مبعثرة وطلبت منا تخمين الكلمة الاصلية في دقيقة واحدة. نزلت حينها قطرة عرق على جبيني وأنا أسابق الوقت لأحول (وسمقا) لــ (قاموس). نفس ذلك الاحساس دهاني الآن. 
-اصل أخوكي تعب شوية ودخل المستشفى في مصر. فهم سافروا.
-يعني هيرجعوا النهارده؟
-لا طبعا النهارده ازاي؟ يمكن يرجعوا بعد يوم كده.. أو اتنين.
-..............
-يللا بس انتي تعالي وريني اوضتك فين عشان نجيب لك شوية حاجات.

لو قال لي أحدهم هذا الصباح إن طنط سعدية ستقف في غرفة نومي عصر اليوم، إنها ستطالع محتويات خزانتي وتسألني عن مكان ملابسي الداخلية، لنصحته بمراجعة الطبيب على وجه السرعة. لكن هذا المشهد الشاذ كان يتجلى حقيقةً أمام عيني الآن. شذوذه لخص شذوذ الموقف كله.
سافر والداي؟ هكذا؟ دون اخباري؟ خلاني ابي وحدي في كل هذا البلد؟ بهذه البساطة؟ وتركتني أمي في عهدة طنط سعدية؟؟
سحبت حقيبة سفر صغيرة من فوق الخزانة والقيت فيها بناء على تعليماتها بملابس نوم وملابس داخلية وفرشاة اسنان. التقطت حقيبة المدرسة وتأكدت أن المفتاح فيها ثم غادرنا الشقة.
متر واحد يفصل باب شقتنا عن باب شقة 7. لكن عبوره كان اشبه بالعبور لمجرة أخرى. لأول مرة اشعر بالوحشة في شقة علي وأحمد التي أمضيت فيها مئات الساعات من قبل. فاليوم انا لست هنا لالعب..اليوم ليس بمقدوري تجاهل الكبار وليس بمقدورهم تجاهلي. حتى الولدان نظرا الي وكأنهما يرياني لاول مرة. لم يوجها لي كلمة على مائدة الغداء، ولو فعلا ذلك لما أجبت.
- انت ما بتاكليش ليه يا رانيا؟ احنا متعودين نتغدى متأخر كده، بعد ما ارجع من الشغل. انما انتي تلاقيكي متعودة تتغدي بدري. كلي يا حبيبتي.
هكذا هو عم شفيق والد علي وأحمد: له من اسمه نصيب.
أرز طنط سعدية يبدو أبيض..تماما كالأرز الذي تطهوه امي. لكن التشابه ينتهي هنا، فلا الرائحة ولا المذاق يشبهان أرز امي في شيء. حتى كوب الماء في شقة 7 له طعم مختلف عن اللاطعم الذي يتسم به ماء بيتنا.
بعد أن فرغت العائلة من الأكل أرتني طنط سريرا في زاوية غرفة الطعام وقالت:
شوفي يا رانيا، حطي شنطتك تحت السرير ده. انتي هتنامي هنا الليلة دي. يللا تعالي عشان تعملي واجباتك.
أردت أن أجيبها لكن لساني تجمد. سأنام هنا الليلة؟ 
أخيرا نطقت: أنا نسيت كراستي في البيت يا طنط. هاروح اجيبها.
لن أنام هنا ولو تحول الجحيم لحلبة جليد!


-٣-

أسفل الخزانة


دخلت شقتنا وأغلقت الباب بالمفتاح وقررت ألا أغادرها تحت أي ظرف. ماذا سيفعلون يعني؟ ماذا بمقدورهم؟ هل سيجرونني من هنا جرا وأنا أصيح وأركل وأسب وألعن؟ المسألة سهلة: سأقول لا بقوة وصرامة وسأظل أكررها إلى أن يتركوني وشأني.
أضأت النور، فالشمس كانت نفذت تهديدها وغربت. جلست على الارض قرب الباب وأطرقت رأسي. قررت ألا أبكي ونجحت. اكتشفت أنه بإماكنك أن تمنع عينيك من البكاء لكن ليس بإمكانك أن تمنع الوخز الذي يصيبهما قبيل البكاء.
لا ادري كم من الوقت ظللت هكذا، منكسة الجبين مكسورة النفس، أملأ رئتي برائحة البيت ثم أفرغهما لأملأهما من جديد. أخيرا رفعت رأسي وجلت بنظري. لم يبد لي بيتنا بهذا الجمال من قبل. كل قطعة من أثاثنا بدت فجأة عزيزة للغاية على قلبي رغم أننا لم نختر ايا منها. فقد اختار الأثاث على ذوقه عامل ما - من شبه القارة الهندية على الأرجح - خصصه المستشفى الذي يعمل به أبي لتلك المهمة. الأباجورة التي احترق مصباحها قبل أسبوعين، الأريكة التي سخرتُ كثيرا من لونها الأخضر المتعارض مع رمادية السجاد. المرآة التي شرختها بكرة القدم الشهر الماضي وعوقبت بمنعي من اللعب مع علي وأحمد لأسبوع طويل. حبي لبيتنا ملأ قلبي فجأة، وأوجعه.
عندئذ لمحته. لم أكن لأراه لولا موقعي غير المعتاد على الارض. غصن الشجرة الذي ضاع مني وفتشت عنه طيلة الاسبوع الماضي! ها هو ذا أسفل الخزانة. التقطت هذا الغصن ذات مساء عندما اصطحبني ابي لشراء الخبز من المتجر البعيد. كم لعبت به حينها! أمضيت النزهة وأياما بعدها ألهو به. فتارة كان سيفا مسلولا يحارب أعداء لا يراهم سواي. وتارة عصا كاوبوي، أقصد كاوجيرل، يفزع الحصان كي يسرع. وتارة جيتارا أعزف عليه دويتو مع مايكل جاكسون في تناغم ثنائي تام، بينما الجماهير الغفيرة تكاد تجن انتشاءً. أشعر الآن وكأن ليلة شراء الخبز تلك حدثت قبل قرن كامل.
مددت يدي وسحبته من تحت الخزانة. أراحتني خشونته. ألا يمكنني أنا أيضا أن أختبئ أسفل الخزانة كالغصن إلى أن تعود أمي؟ ابتلت عيناي لكنني لم اسمح للدموع بالانهمار. لدي تكنيك لا يخطئ: أرمش بعيني سريعا، أرمش ثم أفتح عيني قدر الامكان. أكرر هذا إلى أن يجفف الهواء نداوتهما. لو لم يبتل خداي لا أعتبر قد بكيت، صح؟ يجب ان اظل متماسكة وإلا سينال مني الظلام الليلة وأنا وحدي.
جعلت اعد النتوءات على الغصن. اثنان وعشرون نتوءا وأنا مغمضة العينين كبائع البَنَك  الضرير الجاثم دوما أمام باب المدرسة. فتحتهما وأحصيت ثانية: خمسة عشر فقط! ربما وأنا ضريرة أحصيت بعضها مرتين.
بجوار الشباك كان كوب أبي في مكانه المعتاد. يشرب أبي الماء كل صباح وهو يقرأ الجريدة "في نور ربنا". أتعبني الجلوس فقمت إلى الشباك، أمسكت بالكوب الفارغ ونظرت فيه. لا أدري عما كنت ابحث. عن أبي بداخله؟
نظرت من شباكنا الذي يطل على بوابة البناية. داهمني فجأة يقين بأن أمي سترجع. ستعود لتأخذني معها. أو ربما ستعود لتبقى معي ترعاني بينما يسافر أبي وحده. سيشرق داخلها هول ما فعلت. ستوبخ أبي: يا ويلنا! ما الذي فعلناه؟ كيف تركنا رانيا وحدها؟ في أي لحظة الآن ستظهر عند البوابة، بينما أنظر من الشباك ستأتي راكضة، لاهثة، تبكي وتتطلع لشباكنا وتناديني. سامحيني يا رانيا! سامحيني يا ابنتي. وعرفت في قرارة نفسي اني سأسامحها فورا. لا بأس يا امي. المهم انك هنا الآن، أنك لم تتركيني. لم تتركيني. نظرت للكوب الذي لا يزال في يدي فإذا به الآن يحوي نصف قيراط من الدموع. فتحت الشباك وأفرغت الكوب. نثر النسيم عبراتي فوق عشب شارعنا المتكسر.
ولكن مهلا! كيف فاتني أمر بديهي كهذا؟ ألا يمكن ان يكون والداي في المطار الى الان؟ متى حدث كل شيء؟ متى سمعا بالحادث؟ ومتى تقلع الطائرة الى مصر؟ علمت فجأة ما يجب علي فعله. ركضت إلى غرفتي وللمرة الثانية في نفس اليوم جلبت حقيبة وألقيت فيها بملابس عشوائية من الخزانة. وضعت ايضا ٣٨ ريالا هي مدخراتي من مصروفي عبر الشهور. سأنزل من فوري وأذهب للمطار. سألحق بهما وأصحح هذا الخطأ الشنيع.
جريت نحو الباب فإذا بالجرس يدق. يا لسوء حظي. هذه بكل تأكيد طنط سعدية تستعجلني للعودة. لماذا لم تخطر لي فكرة الهرب مبكرة بدقائق فقط؟ بدقيقة واحدة؟ لكن إلهاما سطع في عقلي من حيث لا أدري: سأتظاهر بحاجتي لشراء غرض ما من المتجر بالأسفل. شيئ طلبته المعلمة اليوم.
أخذت الغصن من حيث تركته عند الشباك. قررت أنه ذاهب معي. فتحت الباب وجمدني السرور لحظتين. ثم ابتسمت لأول مرة في يوم طويل.
سيظل هناك "أمل" في هذه الحياة.


-4-


شقة ٥


سيظل هناك أمل في الحياة طالما ظلت "أمل" في حياتي. صديقتي المفضلة (الحقيقية) هي تلك الرشيقة الواقفة بالباب. تعيش أمل في شقة 5، المقابلة لشقتنا بالضبط. تكبرني بعامين فقط لكن الفارق بيننا شاسع، كالفارق بين نسمة وزوبعة. هي أنيقة بفساتينها الحالمة بينما منظري دائما مزرٍ بالجينز والأحذية الرياضية. الساعات التي أقضيها في لعب كرة القدم تسمع خلالها أمل الموسيقى الكلاسيكية. لا تقرأ طبعا روايات عبير، بل لم تسمع بذلك الهراء من قبل. تقرأ أمل كتبا حقيقية، شيكسبير مثلا، وشخص يدعى محمود درويش.
نسيت أنني في عجلة من أمري وأخذت أروي لأمل ما حدث. أنصتت دون مقاطعة ثم سألتني: وهتعملي ايه يا رانيا؟ ترددت قليلا ثم شرحت على استحياء خطتي، خطة "الهروب الكبير". هزت رأسها يمينا ويسارا وسددت لي نظرة معناها: ما هذا الهذيان؟
ساد الصمت دقيقة استعرضت خلالها في رأسي قائمة طويلة من الثغرات في الخطة.
-انتي عايزة تنامي عند طنط سعدية؟
-لا طبعا! أنا هانام هنا. هي ليلة واحدة بالكتير وماما ترجع.
-مش هينفع، طنط هتصمم. بس انا عندي فكرة. تعالي باتي معانا لغاية باباكي ومامتك ما يرجعوا.
وكأن العيد جاء مبكرا. الم أقل إنه يظل هناك أمل في الحياة؟
كان الباب لا يزال مفتوحا ومنه رآنا والد أمل. بسرعة فائقة روت أمل ما حدث. تقلبت ملامحه بين التعاطف والجزع والشفقة وهو يتنقل بنظره من إحدانا للأخرى.
من الموجع أن تروي مأساتك لأحد، لكن الأكثر إيلاما أن تصغي وهي تروى على لسان صديق. أخذت أضغط على غصن الشجرة حتى ابيضت مفاصل قبضتي.
-بابا، قالت أمل وهي تحتضنني، ممكن رانيا تيجي عندنا لغاية مامتها وباباها يرجعوا؟ هي مش عايزة تبات عند علي وأحمد.
-أكيد طبعا ممكن. يللا ساعدي صاحبتك وهاتوا هدومها، وانا هاكلم عمك شفيق.
أجهشت في نحيب غريب النوع. فقد اخذ كتفاي يتحركان للأعلى والاسفل دون سيطرة مني، كأنهما كائن حي بإرادة مستقلة. إحدى هذه التشنجات دفعت بالغصن داخل أنفي، ورأسا انهمر الدم كماء الصنبور. أغرق ملابسي وصنع بركة حمراء صغيرة ومستديرة تماما على الأرض. امتزج على وجهي الدم باللعاب بالدموع. من حسن الحظ أن مرآتنا مكسورة، فلا أعتقد أنني كنت سأسر بمنظري كثيرا.
ذهبنا اذاً الى بيت امل حيث الحياة الجميلة. الجميع يتعاملون مع بعض بأدب جم وكأنهم ضيوف ستتفرق بهم السبل في آخر اليوم، لا أهل يمضون في صحبة بعضهم عمرهم كله. أخوها الاكبر مثلا يقول شكرا عندما تضع أمه له الطعام. الأب يعتذر إن تحدث في لحظة توشك فيها الأم على الحديث، ثم يصر كل منهما على أن يتحدث الآخر أولا. "آسف" و "شكرا" هما بكل تأكيد الكلمتان الاكثر استخداما في بيت امل.
وضعت لنا ام أمل العشاء وأكلتُ بشراهة. كيف يمكن لشخص يمر بمأساة مثلي أن يأكل؟ "بسهولة تامة" هي الاجابة كما اكتشفتها بنفسي.
لاحقا وفي غرفة امل اخذنا نلهو. بالنسبة لها لم يكن لهوا بل هي استعداداتها للنوم ككل ليلة. بالنسبة لي كان عبثا من الطراز الاول. مثلا، قبل النوم تستمع أمل للاوبرا (الاوبرا!) لعشر دقائق كاملة. تكون في تلك الاثناء مغمضة العينين، جالسة على الارض في وضع القرفصاء. لا أحتاج لأن أشرح كم أثار ذلك المنظر ضحكي. ففي بيتنا كان ظهور مغني الاوبرا لثانية واحدة على التلفزيون كفيلا باثارة اعصاب أبي (يصرخ كل مرة "يا ساتر يا رب!" وكأن بنايتنا تقع) وكذلك أعصاب أمي (تنادي من المطبخ أن اقفلوا هذا الهباب). استغربت امل ضحكاتي أول الامر. لكن عدوى الضحك أصابتها. انضمت لي في نوبة ضحك جماعي لم تهدأ إلا بعد وقت طويل.
من غرائب طقوس أمل المسائية أيضا أنها تفرش شعرها قبل النوم..لماذا؟ تساءلت بصدق. هذا هو الاهدار بعينه. فبمجرد ان تنامي سيتبعثر ثانية. هذه المرة لم تتزحزح أمل عن موقفها. ألقت علي محاضرة عن تنشيط فروة الرأس وتوصيل الأوكسجين لخلايا الدماغ وإزالة الاتربة من الشعر وتمليسه من أجل راحة تامة على الوسادة. رفعتُ كفاي في الهواء معلنة الاستسلام.
-فين الفرشة؟ أنا هاساعدك.
ناولتني الفرشاة وقالت وهي تجلس على الارض: مائة ضربة متوسطة القوة لو سمحت. 
-مائة؟!
-وانا هاشوفك في البقشيش.
شعر أمل بني كشعري، ناعم كشعري، أقصر قليلا فقط من شعري. لكنه لسبب ما مطيع، مهاود. ينصاع للجاذبية الأرضية. ينسدل على ظهرها بسلاسة، ينهمر كشلال. أما شعري فيحيط برأسي كموجات بحر متلاطم، كأسهم تشير إلى كل الاتجاهات.
أخذت أفرش، وأخذنا نصدح مع مغنية الأوبرا. عن نفسي كنت أطلق أصواتا بدائية كإنسان الكهف. ظننت أن أمل تفعل الشيء نفسه إلى أن انفجرت هي ضاحكة.
-ايه اللي انتي بتقوليه ده؟
-ايه؟ باغني أوبرا.
-يا بنتي لازمي تعرفي كلمات الأغنية الأول. دي مثلا كلماتها بالإيطالي.
-ايه ده؟ هو اللي بيقولوه ده كلام حقيقي؟ مش صريخ وخلاص؟
بينما نحن كذلك دق جرس الباب.
التقت عينانا لثانية طويلة.
-بسرعة يا رانيا. اعملي نفسك نايمة عشان طنط سعدية تسيبك هنا!
قفزت إلى الفراش واندسيت تحت الغطاء. راقبت أمل تتحرك كلمح البرق، تطفئ النور وجهاز التسجيل. انضمت إلي في الفراش وغطت وجهها. كدت أتكلم لكنها قالت "شششش".
للحظات ساد الهدوء حتى أنني سمعت ساعة حائط تدق في غرفة أخرى. ثم أتى صوتا طنط سعدية وأم أمل لدى باب البيت. 
أخذ الصوتان يقتربان. ما الذي سيحدث لي؟ بدا لي أن مصيري سيتقرر في غضون لحظات، أو أنه يتقرر فعلا الآن. ولكن على أي نحو؟ أحتاج إلى علامة، إشارة إلى ما يخبئه القدر لي.
أغمضت عيني واخترت الرقم تسعة. أول شيء تقع عليه عيناي بعد أن أعد إلى تسعة سيكون علامتي. فتحت عيناي فسقطتا مباشرة على شيئ ما على الجدار لم أتبينه في البداية. ها هو يتجسد تدريجيا وسط الظلام، إنها صورة الوردة الذابلة التي لسبب ما تحبها أمل كثيرا. أعلم أنني صغيرة، لكن الأمر لا يحتاج لخبرة في الحياة كي أفهم أن الوردة الذابلة لا تشير إلى خير.
أصبحت المرأتان خارج باب الغرفة بالضبط. رفعت طنط سعدية صوتها كمن يتأهب لشجار.
-ما ينفعش ابدا... دي مامتها وصتني عليها قبل ما تسافر!
-ايوة يا مدام...
صوت أم أمل خفيض عادة، لكنها كانت تخفضه أكثر الآن. ربما تظننا نائمتين فعلا.
-بس انتي عارفه رانيا وأمل صحاب قد إيه.
-ما هي وعلي وأحمد صحاب برضه. دول زي الاخوات. وبعدين مامتها سابتهالي أنا. ما سابتهالكيش ليه؟
شريط من الضوء دخل الغرفة مع فتح الباب.
-شفتي يا مدام سعدية، أهو البنات ناموا. سيبيها الليلة دي بس. حرام نصحيها.
-مش ممكن أبدا. دي امانة واتكلفت بيها!
-طيب طيب. خليكي، أنا اللي هاصحيها
دخلت أم أمل الغرفة وكأنها تريد احتواء الموقف. في قصص عبير يقتنع البطل بأن البطلة نائمة حقا إن كانت تتنفس ببطء. حاولت إبطاء تنفسي لكن قلبي كان يركض كحصان سباق. بعد هزتين رقيقتين او ثلاثة أدركت انني يجب أن أنهض. فحتى لو كنت نائمة صدقا لكنت استيقظت الآن. إلا لو تظاهرت بالموت، لا النوم. ولم أكن مستعدة للتمادي في التمثيل لهذا الحد.
نهضت متثاقلة كأني استدعيت من حلم عميق. همهمتُ بكلام غير مفهوم. كانت أم أمل كتلة تعاطف، لكنها أفهمتني بعينيها أنه لا جدوى. أوصلتني للباب، وهناك تسلمتني طنط سعدية . وضعت يدها على كتفي واقتادتني إلى شقتها دون أن تنطق أي منا بكلمة .
سأبيت في شقة 7 إذاً. سأبيت هناك رغم أن الجحيم لا يزال جحيماً، لم يتحول لساحة جليد ولا يحزنون. بل أتى الجحيم على الجليد، أذابه، حوله نهراً يجري في صمت على خدي.
أول أيام عامي الثاني عشر طويل، طويل جدا، يرفض أن ينتهي.
كم عام سأنتظر قبل أن أعبر للثالثة عشرة؟ 


-5-

دوائر


أدور وأدور حول بنايتنا بحثا عن بوابة الدخول. لكن جدار البناية موصول، مستمر. أين الثغرة التي سأنفذ منها؟ حقيبة المدرسة ثقيلة، ترهق ظهري. أكمل دورة كاملة. لا أجد البوابة حيث يجب أن تكون، ولا أجدها في أي مكان آخر. أبدأ دورة أخرى. تناديني أمي من شباك غرفة نومها، صوتها يأتيني بطيئا جدا، ممطوطا وغير طبيعي: بصيلي يا رانيا، بصيلي فوق عشان أشاورلك على البوابة. 
لكن رأسي ثقيل. قالب طوب خفي مربوط على رأسي يمنعني من النظر لأعلى. القالب الخفي يسحق عنقي. ظهري مثقل بحِمل لا يمكن وضعه. ساقاي منهكتان من كثرة الدوران. لكنني أدور وأدور. عشرات المرات، مئات المرات. وفي كل دورة تناديني أمي. وفي كل مرة أعجز عن رفع رأسي.
يحل الليل وأنا على هذه الحال. صرير الحشرات يخترق أذني. أتخيل عيونا تراقبني في الظلام، وأسمع خطوات بل وتنفسا، لكن لا أرى أحدا. ينال الانهاك مني. تتشكل أمامي على الأرض بركة دماء صغيرة، مستديرة تماما. يهيأ لي أني رأيتها من قبل. ولكن لا أتذكر أين. رائحة الدم نفاذة. أنادي: "ماما.." لكن صوتي ضعيف جدا. أخيرا تهتف أمي: عمرك ما هتلاقي البوابة يا رانيا! عارفة ليه؟
أضع كل ما تبقى من قواي الخائرة في محاولة أخيرة لرفع رأسي. فمن الضروري للغاية أن "أعرف ليه". أنجح في رفعه سنتيمترات معدودة تكفي ليظهر وجه أمي في الشباك حزينا، آسفا.
تقول بحسرة: 
-لإنك ما تستاهليش تلاقيها.


-6-

شقة ٧

بحر بلا قرار من الشاي بالحليب، وأصناف وأصناف من الجبن والبيض والفول والسلطات والمخللات. هكذا تبدو مائدة الإفطار في شقة ٧. تبين لي أن الفطور لدى الجيران أمر جلل. يجلس جيراننا الى المائدة كما يفعلون وقت الغداء. يستخدمون الملاعق والشوك والسكاكين. عن نفسي لم يتسن لي والساعة لا تزال السادسة صباحا اقناع معدتي بمشاركتهم وهي التي تصوم حتى الثانية ظهرا. ثم إني صحوت من النوم بألم في عنقي وبقايا كابوس تدور كإعصار في رأسي.
تركت المائدة وتظاهرت بالنظر من النافذة انتظارا لباص المدرسة. ها هي شجيرات النخيل في مكانها. ولكن ماذا كنت أنتظر؟ أن يتغير موقعها؟ أن تعود أدراجها إلى عمق الصحراء تعاطفا مع مأساتي؟ لا تزال الأشجار تقف الواحدة تلو الأخرى، من بنايتنا ثم يميناً، على امتداد النظر حتى مركز المدينة، كطابور الصباح في مدرستي. لكن طابور الشجيرات يستمر طوال اليوم كل يوم. ولا تزال أوراقها العريضة تتجه نحو السماء، كأيادٍ تبتهل طوال اليوم كل يوم أيضا.
-لازم تاكلي حاجة يا رانيا.
-معلش يا عمو. احنا في البيت مش متعودين نفطر.
-معقول؟
نظرات الذهول طالعتني من وجوه كافة أفراد الاسرة بلا استثناء. كانت اول مرة يرون فيها شخصا من تلك الفصيلة التي يسمعون عنها من "البشر الذين لا يفطرون". أطالوا النظر حتى ظننت أن أحدهم قد يطلب توقيعي على سبيل الذكرى، أو أن يلتقط صورة لي كي يريها لزملائه.
-هتروحي المدرسة على لحم بطنك؟
تدخلت طنط سعدية بنفسها: طب على الأقل اشربي الشاي. ارتشفت قليلا وكم سررت بأني فعلت!
فبينما الشاي في بيتنا مشروب جاد متجهم، فهو في شقة ٧ مشروب خليع لا يكف عن هز وسطه.
للشاي في بيتنا لون واحد: الاحمر القاني. فقانون الاشياء في بيتنا يقضي بأن الشاي لا يمزج أبدا وتحت اي ظرف بالحليب.
وللشاي في بيتنا أيضا طعم واحد: سادة، بلا ذرة سكر واحدة.
كم تتناقض تلك الوصفة الموحدة للشاي مع المعزوفة البهيجة التي دخلت فمي ذلك الصباح! إضافة الحليب حولت الشاي من مشروب حارق للمعدة لمشروب مريح، مطمئن. وإضافة السكر حولت الحياة من فيلم أبيض وأسود الى فيلم بالألوان في ثانية. 
-اشربي اشربي، قال أحمد وهو يجري للحاق بباص مدرستهم، النهارده لما أرجع هالاعبك حتة دين ماتش! هاكسرك!
تحسن مزاجي بفضل الشاي. وتحسن أكثر بصعودي للباص. أخيرا شيء مألوف. شيئ ينتمي لعالمي أنا. ها هي الحياة تستعيد شيئا من طبيعتها.
أمضيت الرحلة إلى المدرسة في صمت. لم اشارك كعادتي في المزاح والنميمة. لم اشكُ من الواجب أو من طغيان المدرسات. لم تكن معي زجاجة كوكاكولا ولا أقراص نعناع كي اشارك في سباق التفجير الصباحي الذي ينتهي بصراخ السائق في الجميع.
لم يحاول أحد إخراجي من صمتي. ولم يسألني أحد عما حدث معي. فكيف لأي منهم أن يخمن أن أبي وأمي اصبحا فجأة وفي أقل من أربع وعشرين ساعة في بلد آخر، بل قارة أخرى. لا أحد يعرف بما حدث إلا مروة. لكنها لم توجه لي كلمة عن الموضوع. ولم يثر هذا اندهاشي. هكذا كان طبعها وهكذا كانت حقيقة علاقتنا: سطحية رغم ما يظنه الجميع.  
في المدرسة وقبل طابور الصباح هممت أن أحكي لزميلاتي لكني بكيت رغما عني، وخرج كلامي مبهما. التففن حولي وحاولن تهدئتي رغم عدم فهمهن. حتى نوال - تلك الطويلة التي لم أكن لها أبدا أي ود - تحلقت معهن. سمعتها وسط نحيبي تقول بتأثر بالغ: حرام! مامتها دخلت المستشفى.
عصر ذلك اليوم رن جرس الهاتف. ركضت نحوه ثم تذكرت أنني لست في بيتي. ردت طنط من غرفة نومها. لما أنهت الاتصال خرجت وقالت: دي كانت مامتك. ثم مضت إلى شأنها.
وقفت في ذهول. لو قالت لي طنط سعدية إنها تلقت للتو اتصالا من العالم الآخر، من جد جدها مثلا، لما كانت دهشتي أعظم منها الآن. لماذا لم يدر في خلدي مطلقا أننا يمكن أن نتحادث هاتفيا، أنا ووالداي؟ والأهم..لماذا لم نتحادث هاتفيا إذاً الآن، في الاتصال الذي انتهى للتو؟
لكن أحمد جذبني من يدي. واقفة هنا ليه؟ هربانة من الماتش؟ 
نادى علي من عند باب الشقة: يللا ننزل!
لم نلعب مباراة واحدة ذلك اليوم، بل خمسة. وضعت كل غضبي في الكرة المسكينة. أحرزت عددا قياسيا من الأهداف وأزعجت عددا قياسيا أيضا من الجيران. فجأة وجدنا طنط سعدية وعم شفيق بنفسيهما في وسط الساحة. ظن ثلاثتنا أننا في ورطة كبرى. لكن عم شفيق قال: ما رأيكم في نزهة سريعة؟ إلى السيارة جميعا.
قفز الولدان فرحا وتسابقا للسيارة. لحقت بهما متباطئة. لم أتعود أن أخرج مع أسرة غير أسرتي. ذهبنا إلى مطعم يطل على البحر. بجوار مائدتنا صخرة عظيمة تتكسر الأمواج عليها فيصلنا الرذاذ. قبل أن يأتي النادل جاء من أعتقد أن اسمه (مندوب مبيعات). لا أدري ماذا أراد أن يبيع لعم شفيق لكنه وجه له أسئلة سريعة وكثيرة ومتتالية. أين يعيش، ماذا يعمل، من أي بلد هو أصلا. رد عم شفيق على كل الأسئلة برحابة صدر رغم ضيق طنط سعدية الواضح. تذكرت أبي وهو يصفه ذات مرة: ما بيحبش يحرج حد. ثم سأله: كم طفلا عندك؟ شعرت بحرج شديد وتمنيت لو ابتلعتني موجة من تلك. نظر إلي عم شفيق. نظرت بدوري إلى طابور من النمل يصعد الصخرة، تابعت صعوده وكأنه حدث مثير للغاية. 
قال ببساطة: ثلاثة. 
أراهن أنه لا يعرف أنني سأتذكرها له للأبد.


-7-


شقة ٦


يدهشني أن أتذكر تلك الحقبة فأدرك أنها لم تدم سوى أسبوع. فقد بدت حينها كعمر كامل. بمرور الوقت ألفت عادات سكان الشقة ٧. تعودت على سريري رغم غرابة موقعه في غرفة الطعام. وتعودت ايضا على لحافي الأبيض الذي لا يزينه سوى مربعين برتقاليين. لونهما الزاعق يبرز غياب اللون في بقية اللحاف. استعذبت الشاي في ثوبه الجديد، ولم يعد للماء طعم ولا رائحة.
أصبت ببعض الذعر عندما اكتشفت في اليوم الثالث - أو لعله كان الرابع - أنني أجد صعوبة في تذكر ملامح أمي وأبي. إلا أنني ما لبثت أن اعتدت حتى على هذا.
زارني عمي وزوجته مرة. كنت نسيت وجودهما في البلد لتباعد زياراتهما لنا. بدا واضحا أن الهدف هو زيارة طنط سعدية وزوجها، لا الحديث معي. سمعت جانبا من حديث زوجة عمي مع طنط سعدية
-حد يعمل كده؟ يسيبوا ضناهم بالشكل ده؟
-أنا عارفة يا مدام؟! زي ما هو ابنهم هي برضه بنتهم.
لم يحزنني ما سمعت بقدر ما أذهلني أن أفكارا كانت تهيم في متاهات عقلي تبلورت هكذا في كلمات معدودة.
عندما شارفت الزيارة على الانتهاء عرضت زوجة عمي استضافتي بدلا عن طنط سعدية ثم - وبذات النَفَس - أردفت: "ولا خليها عندكو أسهل. وآدي الباص بيجيبها ويرجعها من المدرسة كل يوم".
 فهمت من حوارهم الذي لم أشرك فيه ان الاتصالات مستمرة بين أبي وأمي وبين عمي وطنط سعدية. آلمني كثيرا أن أمي لم تطلب الحديث معي، أن أبي لم يرد سماع صوتي.
أمضيت أياما بأكملها أتخيل رنين جرس الهاتف. تلذذت بنسج سيناريوهات انتقامية: أن تتصل أمي وتطلب الحديث إلي، حينها أرفض. أقول بلا اهتمام: قولوا لها رانيا مشغولة. بتذاكر. في سيناريو آخر يتصل أبي. لكني سأكون حينها مريضة جدا وطريحة الفراش. سأعجز عن الكلام. سيسقط أبي فريسة للشعور بالذنب، ولن يتمكن من سماع صوتي.
منحني كل سيناريو من تلك لذة هائلة لكنها تتبخر في لحظات. ينتابني بعدها يقين بأن الخطأ خطئي. فوالداي كانا سيتحدثان إلي بالتأكيد لو كنت أستحق. 
أخيرا عدت من المدرسة ذات يوم لأجد طنط سعدية تبتسم على غير العادة. نظرت لي قليلا ثم قالت:
-خلاص يا رانيا. باباكي جاي النهارده.
هكذا وببضع كلمات تحولتُ من لاجئة إلى انسان له كيان، ينظر الناس إليه.. بل ويبتسمون في وجهه. ملأني شعور دافئ بالسعادة وسألتها بابتسامة عريضة:
-وماما كمان؟
-لأ .. ماما هتفضل شوية في مصر.
تبددت ابتسامتي، لكن ليس كليا. فصحيح أن أمي لن تعود الآن، لكن سيعود أبي. وستعود الشقة 6.
استجبت فورا لتعليماتها بالتحمم وجمع حاجياتي ونقلها لبيتنا.
من شقتنا اختارت معي - أو بالأحرى اختارت لي - فستانا فاخرا لم يلبس منذ اشترته امي. أيدت اختيارها بحماس. من الآن فصاعدا سأتغير، ربما لو أرضيت والداي لن يتركاني ثانية، سأفعل أي شيء بما في ذلك ارتداء الفساتين. سألبس كالأميرة وأتصرف مثلها كذلك.
صنعت طنط سعدية بعد ذلك معجزة صغيرة: صففت شعري بمجفف الهواء فأصبح مطيعا مهذبا كشعر أمل.
عدنا إلى الشقة 7. في انتظار أبي لعبت مع علي وأحمد حرب الوسادات. أعرف طبعا أن الأميرات لا يلعبن هكذا، لكنها حرب واحدة فقط أتوب بعدها. أوقع علي وأحمد بي هزيمة ساحقة. أعلنت استسلامي واعتزالي للعب كالأولاد.
اعترض علي: في كرة القدم يعتزلون في قمة المجد، لا في لحظة الهزيمة!
لا بأس اذن، لنواصل الحرب إلى أن أعتزل في قمة المجد.
لكني لم أنتصر ولم ينتصر أي منا، بل أجهزنا على بعضنا البعض وسقطنا كلنا من فرط الإعياء. مكثنا هكذا حتى بدأ أحمد يقفز من فوق سريرهما الغريب ذي الطابقين إلى الأرض. بدا ما يفعل مثيرا جدا. انضمينا له، علي ثم أنا. أرسل الجيران في الشقة السفلى خادمتهما للشكوى من الضجيج. 
كم الساعة الآن؟ متى يأتي أبي؟
لا زلت أنتظر. خرجنا للبلكونة ولعبنا لعبة من اختراعي أطلقتُ عليها: (من يصرخ أعلى). تصبب العرق على جبهتي من كثرة اللعب. جاءت طنط ونادتني غاضبة
-شوفي شعرك بقى عامل ازاي!
فوجئت أنه عاد مرة أخرى يتحدى الجاذبية الأرضية وفوجئت بها تعيد تصفيفه بالمجفف. من جديد صار منسدلا مشذبا. إنه اختراع عظيم ذلك المجفف. أهم اختراعات الانسان على الإطلاق. لما انتهت أعطتني تعليمات واضحة بألا "أبهدل نفسي". امتثلت وجلست مؤدبة... بنت مثالية.
غيرت جلستي بحيث أواجه ساعة الحائط تماما. ثم غيرتها ثانية كي أواجه باب الشقة. قال علي:
هتفضلي قاعدة كده؟
رد أحمد: يللا نلعب مصارعة!
صاح علي: لا بلاش، لحسن ماما...مرر يده أمام رقبته كالسيف ثلاث مرات.
ضحكنا وفتحنا التلفزيون. جاء عمي وزوجته ثانية. هذه المرة سلما علي، ضحكا في وجهي وربتا على شعري الأملس. حتى أن عمي أشاد بفستاني وناداني ب"رورو". الجميع لطيف معي اليوم. الجميع في انتظار أبي في شقة 7. 
تأخر الوقت وحان موعد العشاء فحضرت طنط سعدية لثلاثتنا طبق علي المفضل: الفول بالطماطم. 
تأخر الوقت أكثر وأكثر ونحن ننتظر. انسحب علي وأحمد للنوم. صممت على البقاء مستيقظة ولم تعارضني طنط سعدية، فبعد معركة تصفيف شعري من حقها أن تستعرض مجهودها أمام أبي. لكنني لم أصمد للنهاية ونمت رغما عني امام التلفزيون.
في الحلم حملني شخص كأني وليد صغير. عرفت من ساعديه أنه أبي: فهذا سمارهما، وهكذا يبدو انقباض العضلات تحت الجلد، وهذا نفس توزيع الشعر: غزير في الأعلى، خفيف قرب الكف. سررت كثيرا بأني سأرى أبي أخيرا حتى لو في المنام، لكنني لما رفعت عيناي لوجهه لم أتبين الملامح.
استيقظت في الصباح - وياللعجب - في سريري في شقة ٦.
لا زلت ألبس الفستان الفاخر. مررت يداي على شعري فإذا به مصففا ناعما لا يزال. تذكرت ان ابي كان على وشك الوصول فهل هو الآن هنا؟ في شقة 6 معي؟ خرجت من الغرفة وسمعت صوتا في البيت. ها هو أبي، يقف في غرفته بالروب الأخضر كأنه لم يغادر أبدا، كأن الأسبوع الماضي كله لم يكن.
كان ظهره للباب فلم يرني. أردت أن أتكلم ولكني لم أعرف ماذا يقال عادة في هذه الظروف. لا يمكن أن أسعل مثلا لينتبه لوجودي. يجب أن أقول شيئا: شيئا ذا معنى. ولكن ماذا؟ كيف تحيي الابنة الأب الذي اختفى فجأة وعاد فجأة؟ هل أحمد الله على سلامته كأنه عاد من العمل ككل يوم؟ هل أذكره أني لم أعد في الحادية عشرة كما تركني؟ أني كبرت عاما كاملا في أسبوع؟
اكتفيت بمراقبته وهو يخرج أشياء من الخزانة ويدخل أخرى. بدأت أتحرج من مراقبتي الصامتة له، وكأنني أتجسس عليه. تسربت إلي أصوات شقتنا، شقة 6: طقطقة الخشب، أزيز المكيف، قطرات الماء. استدار أبي. أشرقت الشمس في ابتسامته وفتح ذراعيه.
في رأسي أسئلة لن اسألها أبدا. في رأسي أسئلة لا أجد لها الكلمات.

تمت


Comments

  1. جميلة أوى عندما اكتملت و استعدت قرائتها كقصة مكتملة .. خصوصا العنوان الخاص بكل حلقة يشد الانتباه لقرائتها
    فى انتظار حلقات أخرى ... قد يمكننا السماح لك ببعض الراحة و التقاط الأنفاس و لكن عسى أللا تطول

    ReplyDelete
  2. تعليق صلاح زكي عبر فيسبوك
    بعد ان أتمت " نوران " قصتها ( شقة ٦ ) أتمت في الوقت نفسه مرحلة جديدة من مسيرتها الابداعية ، لتفتتح فصل جديد من مرحلة جديدة، فبعد التجريب في قصص قصيرة اتسمت بالكثافة اللغوية على نحو بدا احيانا عسير الفهم مما يستدعي معها التوقف والتمعن فيا تحمل الجل والعبارات من معان ، فان " نوران " قد تخلت فيما يبدو عن ذلك الأسلوب في القص والسرد ، حيث بدت هنا المعاني هنا بالغة الوضوح والفكرة مكتملة لا لبس فيها ، ف ( رانيا ) بطلة القصة البالغة للتو اثنتي عشر عاما تواجه موقفا مفاجئا بسفر الاب وآلام الى مصر للاطمئنان على الشقيق الذي دخل المستشفى على عجل ، ورغم ان الاب وآلام في حياة صبية في هذه السن امر بالغ الأهمية الا ان الجميل في هذه القصة انهما خارج الفعل الواقعي فقد سافرا الى الوطن لأمر عاجل وانتهى الامر !!!! مما يضع الموقف بكل تداعياته على عاتق تلك الطفلة ...... فقد وجدت نفسها وحيدة تواجه أمرا صعبا ينؤ حمله كاهلها الغض وعمره الفتي ، غير ان "نوران " بإشارات ذكية تضع مفاتيح شخصية البطلة كحجر الزاوية في فهم سلوكياتها في التعامل مع هذا الموقف المفاجئ ، فتلك الفتاة الصغيرة تملك من الثقة في النفس وقوة الشخصية وبعض العناد فضلا عن شقاوة طفولية واضحة مايؤهلها لمواجهة التحدي .... فما هي يا ترى تلك الحياة التي صاغت هذه الطفلة على هذا النحو ؟؟؟؟
    يبدو من شكل الحياة داخل منزل ( رانيا ) ما يساعد على الفهم ، ف ( رانيا ) هي اصغر الأبناء ، هي اخر العنقود ، ومن المفترض وهي على هذه الحال ان تلقى من الاهتمام والحنان ما يجعل منها فتاة مدللة مرفهه ، لكن من الواضح انها لم تكن كذلك ، فالأب الذي يعمل طبيبا تأخذه طبيعة عمله بعيدا عن مسئولياته كوالد ، وكذلك الام التي اعتادت الاستيقاظ متأخرة ، ووجبة الفطور المعتادة في غالبية البيوت لم تكن أمرا اعتياد يا في بيت " رانيا " وهذا ما ظهر جليا واضحا من السطور الاولى للقصة والسطور الاخيرة من القصة ، ففي الشقة ( ٧ ) المجاورة حيث طنط سعدية وعمو شفيق تكتشف رانيا ان هناك وجبة كاملة من الفطور المكون من مفردات غذائية عديدة ، حتى بدا كوب الشاي باللبن أمرا جديدا ل ( رانيا ) يخالف ذلك المشروب الذي اعتادت عليه لسنوات ...الداكن اللون والخالي من السكر والقابض للمعدة .... حتى بدا مخالفا تماماً لذلك المشروب الذي أراح معدتها الصغيرة بعد سنوات من الجفاف .... .... باختصارًهذه بعض ملامح حياة عاشتها ( رانيا ) حياة كفيلة بتشكيل شخصيتها القوية العنيدة المعتمدة على النفس ، ولذلك كانت دعوة أبلة الناظرة والدة صديقتها اللدودة ( مروة ) ومديرة مدرستها بالضيافة في منزلها أمرا مرفوضا ، وهو الامر الذي قوبل بالرفض والتحفظ ايضا عندما رفضت ( رانيا ) في اول الامر دعوة طنط سعدية بالإقامة في " شقة ٧ " ثم رضخت على مضض وظلت تضع السيناريوهات المختلفة من الهروب من ذلك البيت الذي بدا لها سجنا لولا زمالتها الطفولية في اللعب مع احمد وعلي ابني طنط سعدية وعمو شفيق واللذين خففا لها مع طيبة عمو شفيق عنف وتسلط طنط سعدية ..... صور متعددة وتحديات مختلفة ومفاجئة تعيشها بطلة القصة طوال تلك الايام التي بلغت نحو اسبوع بعيدا عن " شقة ٦ " وفي غربة مفاجئة للآب وآلام . ....
    لكن " نوران " بدقة معرفتها بالنفس الانسانية لم تترك ( رانيا ) تواجه تلك التحديات بمفردها والا كان المصير في هذه الحال احد أمرين ، اما انكسار تلك الفتاة وزوالها الى الأبد برغم قوة شخصيتها ، او تعلمها من تلك التجربة القاسية ، هنا كان الأمل في ( امل ) صديقتها التي تكبرها بنحو عامين ، فقد أدخلت في حياتها وخلال بضع ساعات قلائل معان جديد للحياة ، فثمة مايعرف بفن الأوبرا وهناك أشياء اسمها ثقافة ، وشاعر عربي اسمه محمود درويش ، فضلا عن انعكاس ذلك كله على اسلوب الحياة في بيت ( امل ) ذلك الهدؤ المشبع بالاحترام في طريقة الحديث والسلوك بين والد ( امل ) وأمها ..... نمط جديد لم تعهده ( رانيا ) في بيتها من قبل ؟؟؟؟ ًففي الوقت الذي كانت ( شقة ٧ ) المجاورة ، شقة عمو شفيق واحمد وعلي وطنط سعدية هي معرفة ماهو جديد على صعيد المعدة ، فان ( شقة ٥ ) شقة امل ، هي المعرفة والتجربة على صعيد العقل والروح ..... وهكذا تبدوا الايام السبعة في حياة ( رانيا ) هي صياغة جديدة وميلاد جديد لتلك الطفلة ، ولاحظ هنا رقم ( ٧ ) فالأب وآلام يسافران الى مصر وابنتهما تتم عامها الثاني عشر ، ثم تستقبل عودة والدها بعد انقضاء اليوم السابع ، اي ان الفاصل بين العامين هو سبعة ايام لا اكثر ،

    ReplyDelete
  3. بقية تعليق صلاح زكي عبر فيسبوك
    ثم نجد معنى اخر ، ف ( رانيا ) قوية الشخصية العنيدة بدت على إدراك ان نمط الحياة في شقة ( ٧) المجاورة رغم كراهيتها لصاحبته طنط سعدية فيه ما يفيد فثمة اهتمام بوجبة الفطور التي لا يوجد لها شبيها في شقتها ،،( شقة ٦ ) اما اهم الجوانب في حياة هذه الطفلة خلال تلك الايام السبعة هو ما تركته الساعات التي قضتها في ( شقة امل ) فقد خرجت خلقا جديدا ، مدركة لقيمة المعرفة ، مستوعبة لمعني الثقافة ، مكتشفة ان بها من الجوانب في شخصيتها ما يتعين استكماله ..... فقوة الشخصية والطبع العنيد بغير ثقافة يودي الى مزالق التهلكة !!! اما توافر المعرفة والفكر والشعر مع تلك الشخصية القوية جديرة بخلق انسان جديد ...... لاحظ تلك الكلمات على لسان ( رانيا ) .... " يبدو ان في سلوكي ما جعل ابي وأمي يحملان تجاهي تلك المشاعر غير الودودة مما يتعين عليها ان أغير من سلوكياتي " ..... لاحظ أيضاً " لقد شاهدت ابي واقفا في منتصف الغرفة يرتب أشياء في الخزانة فخجلت من نفسي !!! لقد بدا الامر انني أراقبه ، أتحسس عليه ، وهذا لا يجوز !!! " ..... لاحظ أيضاً ما شعرت به ( رانيا ) عندما شاهدهاوالدها لاول مرة بعد عودته من مصر ، وفور استيقاظها( فتح لها ذراعيه ، فاشرقت الشمس ) ...... انقضت الايام السبعة ، وولدت ( رانيا ) من جديد ....اما ( نوران ) فلها بعد الدعاء ، كل الإعجاب بتلك التحفة الأدبية الجميلة والمدهشة ...... / صلاح

    ReplyDelete
  4. قصة ممتازة تلفت الانتباه و عنوان كل فصل يشد القارئ و يجهله يتطلع الى النهاية بالفعل ابداع .. :) دائما بانتظار جديدك آنسة نوران :))

    ReplyDelete
  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : اختي الفاضلة بارك الله فيك على جميل الذوق والكتابات الرائعة - بصراحة كتابات تأسر - ربي يعينك على المواصلى والتوفيق والنجاح حظك انشاء الله.

    ReplyDelete
  6. تعليق هاله حبيب عبر فيسبوك

    بامكانك ان تمنع عينك من البكاء لكن ليس بامكانك ان تمنع الوخز الذى يصيبهما قبل البكاء.
    من الموجع ان تروى مأساتك لأحد،لكن الأكثر ايلاما ان تصغى وهى تروى على لسان صديق.
    ما هذه الروعة يا نوران ! ما هذه السلاسة والابداع!قصتك مستنى شخصيا جدا والحقيقة عيناى وخزتنى كثيرا جدا اثناء القراءة.اشفقت على رانيا جدا وتضامنت معها احسست بما فى داخلها .لانى مررت بنفس التجربة ولمدة اسبوع ايضا عند وفاة والدتى واصرارى عدم السفر مع الاسرة لحضور العزاء فى البلد ولاول مرة انضم لجيرانى واعيش معهم اسبوع كامل .وعند عودة اسرتى سألتنى جارتنا تحبى تروحى ولا تقعدى معانا.الواضح انى ردى جاء مفاجئا انى رددت لا اقعد معاكو ,تفتكرى لو طنط سعدية خيرت رانيا كان ردهاحيكون ايه؟
    قصة رائعة والرائع ليس فقط مضمونها ولكن طبعا المفردات المستخدمة وسرعة الايقاع فى الحكى .بصراحة اشتاق لان اتلمس قصصك الرائعة بين يدى .ترى الم يحن الوقت لتفكرى فى تجميعها ونشرها.وفقكى الله وفى انتظار المزيد.

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة