شقة 6 - الفصل السادس - قبل الأخير

-6-

بحر بلا قرار من الشاي بالحليب، وأصناف وأصناف من الجبن والبيض والفول والسلطات والمخللات. هكذا تبدو مائدة الإفطار في شقة ٧. تبين لي أن الفطور لدى الجيران أمر جلل. يجلس جيراننا الى المائدة كما يفعلون وقت الغداء. يستخدمون الملاعق والشوك والسكاكين، ايضا كوجبة الغداء. عن نفسي لم يتسن لي والساعة لا تزال السادسة صباحا اقناع معدتي بمشاركتهم وهي التي تصوم حتى الثانية ظهرا. ثم إني صحوت من النوم بألم في عنقي وبقايا كابوس تدور كإعصار في رأسي.
تركت المائدة وتظاهرت بالنظر من النافذة انتظارا لباص المدرسة. ها هي أشجار النخيل في مكانها. ولكن ماذا كنت أنتظر؟ أن يتغير موقعها؟ أن تعود أدراجها إلى عمق الصحراء تعاطفا مع مأساتي؟ ها هي الآن كما كانت دائما: مصطفة الواحدة تلو الاخرى على امتداد النظر من بنايتنا حتى مركز المدينة. وها هي أوراقها منحنية نحو السماء كأيادٍ تتضرع طوال الوقت.
-لازم تاكلي حاجة يا رانيا.
-معلش يا عمو. احنا في البيت مش متعودين نفطر.
-معقول؟
نظرات الذهول طالعتني من وجوه كافة أفراد الاسرة بلا استثناء. كانت اول مرة يرون فيها شخصا من تلك الفصيلة التي يسمعون عنها من "البشر الذين لا يفطرون". أطالوا النظر حتى ظننت أن أحدهم قد يطلب توقيعي على سبيل الذكرى، أو أن يلتقط صورة لي كي يريها لزملائه.
-هتروحي المدرسة على لحم بطنك؟
تدخلت طنط سعدية بنفسها: طب على الأقل اشربي الشاي. ارتشفت قليلا وكم سررت بأني فعلت!
فبينما الشاي في بيتنا مشروب جاد متجهم، فهو في شقة ٧ مشروب خليع لا يكف عن هز وسطه.
للشاي في بيتنا لون واحد: الاحمر القاني. فقانون الاشياء في بيتنا يقضي بأن الشاي لا يمزج أبدا وتحت اي ظرف بالحليب.
وللشاي في بيتنا أيضا طعم واحد: سادة، بلا ذرة سكر واحدة.
كم تتناقض تلك الوصفة الموحدة للشاي مع المعزوفة البهيجة التي دخلت فمي ذلك الصباح! إضافة الحليب حولت الشاي من مشروب حارق للمعدة لمشروب مريح، مطمئن. وإضافة السكر حولت الحياة من فيلم أبيض وأسود الى فيلم بالألوان في ثانية. 
-اشربي اشربي، قال أحمد وهو يجري للحاق بباص مدرستهم، النهارده لما أرجع هالاعبك حتة دين ماتش! هاكسرك!
تحسن مزاجي بفضل الشاي. وتحسن أكثر بصعودي للباص. أخيرا شيء مألوف. شيئ ينتمي لعالمي أنا. ها هي الحياة تستعيد شيئا من طبيعتها.
أمضيت الرحلة إلى المدرسة في صمت. لم اشارك كعادتي في المزاح والنميمة. لم اشكُ من الواجب أو من طغيان المدرسات. لم تكن معي زجاجة كوكاكولا ولا أقراص نعناع كي اشارك في سباق التفجير الصباحي الذي ينتهي بصراخ السائق في الجميع.
لم يحاول أحد إخراجي من صمتي. ولم يسألني أحد عما حدث معي. فكيف لأي منهم أن يخمن أن أبي وأمي اصبحا فجأة وفي أقل من أربع وعشرين ساعة في بلد آخر، بل قارة أخرى. لا أحد يعرف بما حدث إلا مروة. لكنها لم توجه لي كلمة عن الموضوع. ولم يثر هذا اندهاشي. هكذا كان طبعها وهكذا كانت حقيقة علاقتنا: سطحية رغم ما يظنه الجميع.  
في المدرسة وقبل طابور الصباح هممت أن أحكي لزميلاتي لكني بكيت رغما عني، وخرج كلامي مبهما. التففن حولي وحاولن تهدئتي رغم عدم فهمهن. حتى نوال - تلك الطويلة التي لم أكن لها أبدا أي ود - تحلقت معهن. سمعتها وسط نحيبي تقول بتأثر بالغ: حرام! مامتها دخلت المستشفى.
عصر ذلك اليوم رن جرس الهاتف. ركضت نحوه ثم تذكرت أنني لست في بيتي. ردت طنط من غرفة نومها. لما أنهت الاتصال خرجت وقالت: دي كانت مامتك. ثم مضت إلى شأنها.
وقفت في ذهول. لو قالت لي طنط سعدية إنها تلقت للتو اتصالا من العالم الآخر، من جد جدها مثلا، لما كانت دهشتي أعظم منها الآن. لماذا لم يدر في خلدي مطلقا أننا يمكن أن نتحادث هاتفيا، أنا ووالداي؟ والأهم..لماذا لم نتحادث هاتفيا إذاً الآن، في الاتصال الذي انتهى للتو؟
لكن أحمد جذبني من يدي. واقفة هنا ليه؟ هربانة من الماتش؟ 
نادى علي من عند باب الشقة: يللا ننزل!
لم نلعب مباراة واحدة ذلك اليوم، بل خمسة. وضعت كل غضبي في الكرة المسكينة. أحرزت عددا قياسيا من الأهداف وأزعجت عددا قياسيا أيضا من الجيران. فجأة وجدنا طنط سعدية وعم شفيق بنفسيهما في وسط الساحة. ظن ثلاثتنا أننا في ورطة كبرى. لكن عم شفيق قال: ما رأيكم في نزهة سريعة؟ إلى السيارة جميعا.
قفز الولدان فرحا وتسابقا للسيارة. لحقت بهما متباطئة. ذهبنا إلى مطعم يطل على البحر. بجوار مائدتنا صخرة عظيمة تتكسر الأمواج عليها فيصلنا الرذاذ. قبل أن يأتي النادل جاء من أعتقد أن اسمه (مندوب مبيعات). لا أدري ماذا أراد أن يبيع لعم شفيق لكنه وجه له أسئلة سريعة وكثيرة ومتتالية. أين يعيش، ماذا يعمل، من أي بلد هو أصلا. رد عم شفيق على كل الأسئلة برحابة صدر رغم ضيق طنط سعدية الواضح. تذكرت أبي وهو يصفه ذات مرة: ما بيحبش يحرج حد. ثم سأله: كم طفلا عندك؟ نظر إلي عم شفيق. نظرت بدوري إلى طابور من النمل يصعد الصخرة. 
قال ببساطة: ثلاثة. 
أراهن أنه لا يعرف أنني سأتذكرها له للأبد.

يتبع...

Comments

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة