شقة 6 - الفصل الرابع

-4-


سيظل هناك أمل في الحياة طالما ظلت "أمل" في حياتي. صديقتي المفضلة (الحقيقية) هي تلك الرشيقة الواقفة بالباب. تعيش أمل في شقة 5، المقابلة لشقتنا بالضبط. تكبرني بعامين فقط لكن الفارق بيننا شاسع، كالفارق بين نسمة وزوبعة. هي أنيقة بفساتينها الحالمة بينما منظري دائما مزرٍ بالجينز والأحذية الرياضية. الساعات التي أقضيها في لعب كرة القدم تسمع خلالها أمل الموسيقى الكلاسيكية. لا تقرأ طبعا روايات عبير، بل لم تسمع بذلك الهراء من قبل. تقرأ أمل كتبا حقيقية، شيكسبير مثلا، وشخص يدعى محمود درويش.
نسيت أنني في عجلة من أمري وأخذت أروي لأمل ما حدث. أنصتت دون مقاطعة ثم سألتني: وهتعملي ايه يا رانيا؟ ترددت قليلا ثم شرحت على استحياء خطتي، خطة "الهروب الكبير". هزت رأسها يمينا ويسارا وسددت لي نظرة معناها: ما هذا الهذيان؟
ساد الصمت دقيقة استعرضت خلالها في رأسي قائمة طويلة من الثغرات في الخطة.
-انتي عايزة تنامي عند طنط سعدية؟
-لا طبعا! أنا هانام هنا. هي ليلة واحدة بالكتير وماما ترجع.
-مش هينفع، طنط هتصمم. بس انا عندي فكرة. تعالي باتي معانا لغاية باباكي ومامتك ما يرجعوا.
وكأن العيد جاء مبكرا. الم أقل إنه يظل هناك أمل في الحياة؟
كان الباب لا يزال مفتوحا ومنه رآنا والد أمل. بسرعة فائقة روت أمل ما حدث. تقلبت ملامحه بين التعاطف والجزع والشفقة وهو يتنقل بنظره من إحدانا للأخرى.
من الموجع أن تروي مأساتك لأحد، لكن الأكثر إيلاما أن تصغي وهي تروى على لسان صديق. أخذت أضغط على غصن الشجرة حتى ابيضت مفاصل قبضتي.
-بابا، قالت أمل وهي تحتضنني، ممكن رانيا تيجي عندنا لغاية مامتها وباباها يرجعوا؟ هي مش عايزة تبات عند علي وأحمد.
-أكيد طبعا ممكن. يللا ساعدي صاحبتك وهاتوا هدومها، وانا هاكلم عمك شفيق.
أجهشت في نحيب غريب النوع. فقد اخذ كتفاي يتحركان للأعلى والاسفل دون سيطرة مني، كأنهما كائن حي بإرادة مستقلة. إحدى هذه التشنجات دفعت بالغصن داخل أنفي، ورأسا انهمر الدم كماء الصنبور. أغرق ملابسي وصنع بركة حمراء صغيرة ومستديرة تماما على الأرض. امتزج على وجهي الدم باللعاب بالدموع. من حسن الحظ أن مرآتنا مكسورة، فلا أعتقد أنني كنت سأسر بمنظري كثيرا.
ذهبنا اذاً الى بيت امل حيث الحياة الجميلة. الجميع يتعاملون مع بعض بأدب جم وكأنهم ضيوف ستتفرق بهم السبل في آخر اليوم، لا أهل يمضون في صحبة بعضهم عمرهم كله. أخوها الاكبر مثلا يقول شكرا عندما تضع أمه له الطعام. الأب يعتذر إن تحدث في لحظة توشك فيها الأم على الحديث، ثم يصر كل منهما على أن يتحدث الآخر أولا. "آسف" و "شكرا" هما بكل تأكيد الكلمتان الاكثر استخداما في بيت امل.
وضعت لنا ام أمل العشاء وأكلتُ بشراهة. كيف يمكن لشخص يمر بمأساة مثلي أن يأكل؟ "بسهولة تامة" هي الاجابة كما اكتشفتها بنفسي.
لاحقا وفي غرفة امل اخذنا نلهو. بالنسبة لها لم يكن لهوا بل هي استعداداتها للنوم ككل ليلة. بالنسبة لي كان عبثا من الطراز الاول. مثلا، قبل النوم تستمع أمل للاوبرا (الاوبرا!) لعشر دقائق كاملة. تكون في تلك الاثناء مغمضة العينين، جالسة على الارض في وضع القرفصاء. لا أحتاج لأن أشرح كم أثار ذلك المنظر ضحكي. ففي بيتنا كان ظهور مغني الاوبرا لثانية واحدة على التلفزيون كفيلا باثارة اعصاب أبي (يصرخ كل مرة "يا ساتر يا رب!" وكأن بنايتنا تقع) وكذلك أعصاب أمي (تنادي من المطبخ أن اقفلوا هذا الهباب). استغربت امل ضحكاتي أول الامر. لكن عدوى الضحك أصابتها. انضمت لي في نوبة ضحك جماعي لم تهدأ إلا بعد وقت طويل.
من غرائب طقوس أمل المسائية أيضا أنها تفرش شعرها قبل النوم..لماذا؟ تساءلت بصدق. هذا هو الاهدار بعينه. فبمجرد ان تنامي سيتبعثر ثانية. هذه المرة لم تتزحزح أمل عن موقفها. ألقت علي محاضرة عن تنشيط فروة الرأس وتوصيل الأوكسجين لخلايا الدماغ وإزالة الاتربة من الشعر وتمليسه من أجل راحة تامة على الوسادة. رفعتُ كفاي في الهواء معلنة الاستسلام.
-فين الفرشة؟ أنا هاساعدك.
ناولتني الفرشاة وقالت وهي تجلس على الارض: مائة ضربة متوسطة القوة لو سمحت. 
-مائة؟!
-وانا هاشوفك في البقشيش.
شعر أمل بني كشعري، ناعم كشعري، أقصر قليلا فقط من شعري. لكنه لسبب ما مطيع، مهاود. ينصاع للجاذبية الأرضية. ينسدل على ظهرها بسلاسة، ينهمر كشلال. أما شعري فيحيط برأسي كموجات بحر متلاطم، كأسهم تشير إلى كل الاتجاهات.
أخذت أفرش، وأخذنا نصدح مع مغنية الأوبرا. عن نفسي كنت أطلق أصواتا بدائية كإنسان الكهف. ظننت أن أمل تفعل الشيء نفسه إلى أن انفجرت هي ضاحكة.
-ايه اللي انتي بتقوليه ده؟
-ايه؟ باغني أوبرا.
-يا بنتي لازمي تعرفي كلمات الأغنية الأول. دي مثلا كلماتها بالإيطالي.
-ايه ده؟ هو اللي بيقولوه ده كلام حقيقي؟ مش صريخ وخلاص؟
بينما نحن كذلك دق جرس الباب.
التقت عينانا لثانية طويلة حملت معاني كثيرة.
-بسرعة يا رانيا. اعملي نفسك نايمة عشان طنط سعدية تسيبك هنا!
قفزت إلى الفراش واندسيت تحت الغطاء. راقبت أمل تتحرك كلمح البرق، تطفئ النور وجهاز التسجيل. انضمت إلي في الفراش وغطت وجهها. كدت أتكلم لكنها قالت "شششش".
للحظات ساد الهدوء حتى أنني سمعت ساعة حائط تدق في غرفة أخرى. ثم أتى صوتا طنط سعدية وأم أمل لدى باب البيت. 
أخذ الصوتان يقتربان. ما الذي سيحدث لي؟ بدا لي أن مصيري سيتقرر في غضون لحظات، أو أنه يتقرر فعلا الآن. ولكن على أي نحو؟ أحتاج إلى علامة، إشارة إلى ما يخبئه القدر لي.
أغمضت عيني واخترت الرقم تسعة. أول شيء تقع عليه عيناي بعد أن أعد إلى تسعة سيكون علامتي. فتحت عيناي فسقطتا مباشرة على شيئ ما على الجدار لم أتبينه في البداية. ها هو يتجسد تدريجيا وسط الظلام، إنها صورة الوردة الذابلة التي لسبب ما تحبها أمل كثيرا. أعلم أنني بعدي طفلة، لكن الأمر لا يحتاج لخبرة في الحياة كي أفهم أن الوردة الذابلة لا تشير إلى خير.
أصبحت المرأتان خارج باب الغرفة بالضبط. رفعت طنط سعدية صوتها كمن يتأهب لشجار.
-ما ينفعش ابدا... دي مامتها وصتني عليها قبل ما تسافر!
-ايوة يا مدام...
صوت أم أمل خفيض عادة، لكنها كانت تخفضه أكثر الآن. ربما تظننا نائمتين فعلا.
-بس انتي عارفه رانيا وأمل صحاب قد إيه.
-ما هي وعلي وأحمد صحاب برضه. دول زي الاخوات. وبعدين مامتها سابتهالي أنا. ما سابتهالكيش ليه؟
شريط من الضوء دخل الغرفة مع فتح الباب.
-شفتي يا مدام سعدية، أهو البنات ناموا. سيبيها الليلة دي بس. حرام نصحيها.
-مش ممكن أبدا. دي امانة واتكلفت بيها!
-طيب طيب. خليكي، أنا اللي هاصحيها
دخلت أم أمل الغرفة وكأنها تريد احتواء الموقف. في قصص عبير يقتنع البطل بأن البطلة نائمة حقا إن كانت تتنفس ببطء. حاولت إبطاء تنفسي لكن قلبي كان يركض كحصان سباق. بعد هزتين رقيقتين او ثلاثة أدركت انني يجب أن أنهض. فحتى لو كنت نائمة صدقا لكنت استيقظت الآن. إلا لو تظاهرت بالموت، لا النوم. ولم أكن مستعدة للتمادي في التمثيل لهذا الحد.
نهضت متثاقلة كأني استدعيت من حلم عميق. همهمتُ بكلام غير مفهوم. كانت أم أمل كتلة تعاطف، لكنها أفهمتني بعينيها أنه لا جدوى. أوصلتني للباب، وهناك تسلمتني طنط سعدية . وضعت يدها على كتفي واقتادتني إلى شقتها دون أن تنطق أي منا بكلمة .
سأبيت في شقة 7 إذاً. سأبيت هناك رغم أن الجحيم لا يزال جحيماً، لم يتحول لساحة جليد ولا يحزنون. بل أتى الجحيم على الجليد، أذابه، حوله نهراً يجري في صمت على خدي.
أول أيام عامي الثاني عشر طويل، طويل جدا، يرفض أن ينتهي.
كم عام سأنتظر قبل أن أعبر للثالثة عشرة؟ 

يتبع

Comments

  1. روايتك سيدتي من أجمل ما قرأت في هذا العام حتى الآن. بارك الله فيك و سدد خطاك

    ReplyDelete
  2. تعليق صلاح زكي
    عبر فيسبوك:

    هكذا الأمل دوما ، يأتي كالحلم ، فيبث فينا الحياة ثم يغادر الى حيث أتى .... وهكذا تبدو " رانيا " رمزا للحياة بكل صخبها وقوتها وعنفوانها ، فهي برغم امتلاكها من الصفات الشخصية ما يؤهلها للصمود ، في وجه عواصف " طنط سعدية " فان رقة أصحاب شقة رقم " 4 " لاتصمد أمام تلك العواصف ، وحيل وذكاء " رانيا " الطفولي سيبقى على الحال نفسها ، فهي أمام التزام تتسلح به " طنط سعدية " وهو تنفيذ وصية الأم بتركها أمانة في كنف شقة " 6" لحين عودتها من مصر ..... غير أن الجديد في الأمر ، هو ذلك الأمل ، الذي تركته " أمل " الصديقة في نفس وزوح " رانيا " .... فثمة ثقافة جديدة ، وروايات شكسبير وشعر شاعر بدا مغمورا اسمه " محمود درويش " عند " رانيا " !!!! ,,,, أشياء كثيرة وجديدة وراقية تدخل في حياة بطلة قصتنا ، والمسار النفسي والوجداني آخذ في التشكل ، فتلك الطفلة التي مابرحت تغادر سنواتها الاثتى عشر ، هكذا تستوعب الدرس الذي لم يبقى طويلا ، غير أن الحياة في عمر كل منا هي لحظات تترك بصماتها القوية على النفس والروح ، المؤلم منها يبقى ساكنا في خفايا النفس ، أما الجميل من المشاعر والأحاسيس فسوف يسكن الروح ..... لا يبقى من شخصية " رانيا " الا بعض من الرتوش الراقية بالشعر والاوبرا والقراءة حتى تملك شخصية هي أقرب الى الجمال ، فكل منا فيه من الخشونة والعنف كما نشأت " رانيا " لكنها رغم ذلك تملك نفسا أبية وشخصية قوية .... سوف تكون صياغة جديدة ، وخلقا جديدا ... في بضع ساعات ستولد " رانيا " من جديد " قوية عفية مثقفة صاحبة رأي وقرار ، فالعنيد بدون ثقافة هو " أحمق " في غالب الأحوال ، أما العنيد المثقف فهو الناجح دوما المتفاءل أبدا الواثق من نفسه طوال مسيزة الحياة ...... نص جميل يكمل الفصول الثلاثة السابقة ويمنح الناقد والقارئ متعة القص وجمال الاسلوب وصنيع الحبكة الروائية ...... " نوران " حماك الله ... / صلاح

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة