شقة 6 - الفصل الأول


-1-

17 يناير 1982

 كانت بدايته عادية ذلك اليوم الذي أتممت فيه عامي الثاني عشر.
فكالمعتاد دق جرس المنبه. وككل صباح لم تصح امي، وكدأبي لم أتضايق. امي  ليست من الصنف الصباحي من البشر. ثم أنها ايقنت أنني لن أتناول وجبة الإفطار قبل الخروج الى المدرسة.
ارتديت زي المدرسة وانا افكر في الهدية التي سأطلبها من أبي اليوم. سيأخذني مساء لاختار ما اريد بنفسي من المركز التجاري. اخذت أمشط شعري واتخيل رد فعله وأنا أطلب جهاز ووكمان . على الارجح لن يفهم طلبي وسيتعين علي بعض الشرح.
فتحت التلفزيون لمشاهدة الرسوم المتحركة (رغم أن مشاهدتها صباحا تصيبك بالغباء طبقا لأمي). عظيم.. إنه بشار! حلقة اليوم تتحدث عمن تفضله تلك النحلة ذات الاسم الذكوري من شخصيات. شخصياته المفضلة وشخصياته الكريهة التي يسميها تأدبا "شخصياتي غير المفضلة".
شربت زجاجة كوكاكولا (رغم أن تناولها على معدة فارغة يسبب القرحة طبقا لأبي. الحمد لله أنه يغادر مبكرا للمستشفى). تذكرت بعد رشفتين أن أضع في الزجاجة أقراص النعناع كما نفعل جميعا في المدرسة هذه الايام. وضعت اربعة أقراص وسددت فوهة الزجاجة بإبهامي ورججت الزجاجة. لم ارج كثيرا حتى لا تنفجر الكولا وتغرق البيت. فعلتها أمس في المدرسة وسط صيحات الاعجاب من زميلاتي اللاتي شكلن حلقة أنا مركزها. لكن من سوء الطالع أن مرت المديرة في لحظة الانفجار بالذات. لم تشفع لي جيرتنا انا والمديرة، ولم يكن ما تلا ذلك جميلا.
حملت حقيبتي ونزلت أنتظر باص المدرسة امام بوابة البناية.
كل شيء سار طبيعيا اذاً. بامكاني ان اتفلسف فاقول ان قلبي كان منقبضا منذ الصباح لكن هذا لم يحدث. فالحقيقة أن أول ما شذ عن المألوف وقع بعد عودتي من المدرسة:
شقتنا - رقم 6 - تقع في الطابق الثاني والأخير من بنايتنا الصغيرة. شقة 2 تقع تحتنا مباشرة وتعيش فيها مروة، التي كان الجميع لسبب ما يعتبرونها أعز صديقاتي. صعدت السلالم بعد نهاية اليوم الدراسي، وفي نفس اللحظة التي مررت فيها امام شقة مروة فتح الباب. تلك الوقحة! انها بالتأكيد كانت تتسمع لصوت قدمي حتى تطالبني برواية عبير التي استعرتها منها بالأمس فقط! تنسى!
لكن من خرج كان والدتها - مديرة مدرستنا وبالتالي ليست "شخصيتي المفضلة".
-ما تيجي يا رانيا ..ادخلي شوية عندنا
أذهلني عرضها بقدر ما أذهلني فتح الباب المفاجئ.
- لا مرسي يا ميس مش هاقدر.
-ليه؟ تعالي اتغدي مع مروة.
توقيت فتحها الباب بالتزامن مع مروري أمامه بالضبط جعل وجهها قريبا جدا مني..لو شئت لاستطعت عد الشعرات البارزة من فتحتي أنفها.
-اصل اكيد ماما مستنياني. مرسي.
هممت بالصعود لكنها قالت
-لا ما اعتقدش مامتك فوق.
-.................
-ولا باباكي
-يمكن خرجوا يا ميس. بس انا معايا مفتاح.

في شقتنا تبين فعلا ان ابي وامي غير موجودين. استغربت الامر، فأبي على الاقل مضمون وجوده في المنزل. يذهب للعمل مبكرا ويعود مبكرا ولا يخرج ثانية الا فيما ندر. أما أمي فلا تعمل. ان خرجت للتبضع تحرص ان تعود قبلي الى البيت. فأنا الصغرى التي جاءت "على كبر" بعد أربعة من الأبناء الذكور لا يقيم أي منهم معنا الآن. تفرقوا ما بين دراسة وعمل. ظن الوالدان أنهما على وشك أن ينعما بالراحة لكن القدر كان يخبئني لهما. . 
لم اتوقف كثيرا عند اختفائهما. بل شعرت بنشوة الاختلاء بنفسي في البيت. ففي الأغلب لن يتيسر لي إلا دقائق يعود والداي بعدها. أسرعت للثلاجة وأحضرت زجاجة كوكاكولا أخرى. أضفت حبتي نعناع وراقبت الرغوة التي أحاطتهما بمجرد نزولهما وكأنه ترحيب من نوع خاص. وجلست في كرسي والدي - أفضل مقاعد الصالون. هذا المقعد المميز يقابل التلفزيون تماما، ثم إن الجالس عليه - كما يقول أبي - يواجه القبلة ومن بعدها ارض الوطن..مصر.
لكنني لن أفتح التلفزيون الآن.. بإمكان الرسوم المتحركة أن تنتظر. أخرجت من حقيبتي رواية عبير التي استعرتها (للأبد) من مروة. عنوانها "الوجه الآخر للذئب". إنها لذة في حد ذاتها أن أقرأ رواية من روايات عبير دون أن اضطر الى اخفائها عن عيون والدي في كتابي المدرسي .

لتسعد جين جدتها التي تحبها كثيرا، وافقت على الزواج من ليون شوفيتي. لكن لكل واحد منهما ارتباطات سابقة. قالت الجدة لجين: لا تقلقي. سيتخلى ليون عن كل صديقاته من أجلك. لكن جين كانت تعرف أن ذلك لن يحدث الا لو تحول الجحيم لحلبة جليد.

بداية مبشرة. لكن غيظي من مروة منعني من التركيز. تلك اللصة سطت على كتبي الثلاثة (زواج بالاكراه، أسيرة القيصر، ووجوه الغيرة) ثم ادعت أنها فقدتها. هل يفقد المرء ثلاثة كتب دفعة واحدة؟ هل تظنني غبية؟ الآن حانت فرصتي للانتقام: سأعيد لها كتابها "عندما يتحول الجحيم لحلبة جليد".

لا أدري كيف تسلل الى عقل الجميع انني وتلك المروة صديقتان حميمتان. زميلاتنا في المدرسة يفترضن ذلك. بل وحتى المدرسات: اليوم صباحا فقط رأتنا معلمة اللغة العربية ننزل من الباص فهتفت: "هو انتو الاتنين دايما مع بعض كده؟" ثم أطلقت ضحكة رنانة.
حقاً..بعض النساء يثرن الشفقة. خاصة المسنات منهن ممن تجاوزن الثلاثين كتلك المعلمة.
انهمكت في القراءة حتى خفت ضوء النهار. هل تأخر الوقت لهذه الدرجة؟ نظرة خاطفة على النافذة اكدت لي ان  الشمس وإن كانت لم تغرب بعد الا انها بالتأكيد تهدد بذلك. قمت اشعل النور لكنني لم أفعل. لو فعلت سيكون إعلانا رسميا بحلول الليل. ولا يمكن السماح لليل بالحلول قبل أن يعود والداي، صح؟
فتحت التلفزيون ووجدته على نفس القناة التي تركته عليها صباحا: قناة الرسوم المتحركة. شاهدت حلقة من الرجل الحديدي وأخرى من غرندايزر ثم قرصني الجوع.
 لم يدخل جوفي طوال اليوم شيئ سوى الكوكاكولا وأقراص النعناع. جهازي الهضمي معتاد على هذا لكنه معتاد ايضا أن اتغدى مع امي وابي فور عودتي للبيت.
قمت أنظر في ساعة الردهة. يا للهول! الرابعة والنصف! الرابعة والنصف؟ مضى علي في البيت ثلاث ساعات ولا حس ولا خبر من احد؟ في مثل هذا الوقت عادة نكون قد انتهينا من الغداء بل ومن الواجب المدرسي، ويكون ابي وامي في عز إغفاءة القيلولة. في مثل هذا الوقت يكون السكون قد خيم على المنزل بعد ضوضاء الغداء والتنظيف والكلام. لكنه يكون سكونا أليفا، لا يمت بصلة للوجوم الحالي. طنين أجهزة التكييف اصبح ملحوظا. وصوت قطرات الماء التي تنزل كل عشر ثوان من صنبور الحمام بدا مدويا، واسعا، يتمدد في البيت كله. 
لما صار الجوع وحشا صغيرا يعربد في معدتي فعلتُ شيئا استثنائيا: دخلت المطبخ لابحث عما آكله. بقى كده؟ في نفس اليوم الذي أتممت فيه الثانية عشرة سأقوم بمهام الكبار؟ كان ابي (نادرا) وامي (عادة) متكفلين بموضوع الطعام هذا. ليس بالضبط من قبيل تدليلي بقدر ما كان تقسيما طبيعا للأدوار: عندما يحين موعد الطعام يعده احدهما، واستهلكه أنا. قبل اليوم لم أدخل المطبخ الا للنهب والسلب، غايتي لم تتعد أبدا الكوكاكولا، والشوكولاتة إن وجدت. اما الأطعمة "الحقيقية"، الأطعمة المملة من قبيل الارز واللحم فعلاقتي بها تنحصر في أكلها.
دخلت اذاً غير مسلحة باي مهارة. وجدت الثلاجة شبه فارغة. تذكرت امي وهي تقول بالامس انها ستتبضع غدا لان "الثلاجة بقت شبه الربع الخالي". ربما لهذا تاخرت؟
وجدت كيسا من الخبز به رغيفان ممتعضان، ربما أزعجهما أن أحدا  لم يفكر في تناولهما حتى بلغ بهما الكبر عتيا.
أخرجتهما من الثلاجة وحدثتهما: "خلاص فرجت، واحد فيكو هيتاكل.. ومين عارف؟ يمكن انتوا الاتنين!" وجدت ايضا جبنا ابيض في علبة. أمسكت سكينا واخذت احاول ان افرد الجبن على الخبز كما شاهدت امي تفعل عشرات المرات. عندما تفعلها هي يبدو الأمر سهلا جدا..فلماذا ألاقي أنا الآن كل هذه المقاومة؟ رفض الجبن باباء ان يدهن على شقفة الخبز الاولى فتقطعت اوصالها من كثرة المحاولة. القيت بها في صندوق القمامة.
مع الرغيف المتبقي لم أغامر بفرد الجبن. وضعت كتلة في وسط الخبز ولففته وبدأت اكل. برودة الشطيرة نبهتني الى انني كان يفترض أن أسخنها في مرحلة ما. لكنني لن أكلف نفسي عناء المحاولة. قررت أن آكل الرغيف التعس بأكمله هكذا: وقوفا في المطبخ. فتحت فمي لتناول المزيد لكن جرس الباب أوقفني.
هذا يوم  الاندهاش. 
تصحيح، هذا يوم الاندهاش ممن يظهر خلف الباب.

يتبع...

Comments

  1. رائعة جداَ يا نوران ، الأسلوب السلس الجميل الذي يجعل القارئ لا يستطيع تركها الا بعد استكمال قرائتها ، و هى توحى بالسيرة الذاتية ، و نهاية الحلقة الأولى غامضة ، فلا تتأخري فى كتابة الحلقة الثانية ا

    ReplyDelete
  2. شكرا على التعليق يا منار ويسعدني انها اعجبتك. القصة ليست سيرة ذاتية ورانيا ليست نوران. لزم التوضيح :)

    ReplyDelete
    Replies
    1. أنا أقصد" توحى " بالسيرة الذاتيةو أسلوبها جميلة جداَ و جعلنى أنتظر الحلقة القادمة حيث ان كثير من الجمل فيه تعبر عن ان ورائها
      المزيد
      كما أعجبتنى كثير من العبارات مثل"ان الشمس وإن كانت لم تغرب بعد الا انها بالتأكيد تهدد بذلك. قمت اشعل النور لكنني لم أفعل. لو فعلت سيكون إعلانا رسميا بحلول الليل. ولا يمكن السماح لليل بالحلول قبل أن يعود والداي، صح؟"

      Delete
  3. قمة الروعة، أعجبني الأسوب كثيرا. شكرا أستاذة نوران

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة