شقة 6 - الفصل الثالث

-3-

دخلت شقتنا وأغلقت الباب بالمفتاح وقررت ألا أغادرها تحت أي ظرف. ماذا سيفعلون يعني؟ ماذا بمقدورهم؟ هل سيجرونني من هنا جرا وأنا أصيح وأركل وأسب وألعن؟ المسألة سهلة: سأقول لا بقوة وصرامة وسأظل أكررها إلى أن يتركوني وشأني.
أضأت النور، فالشمس كانت نفذت تهديدها وغربت. جلست على الارض قرب الباب وأطرقت رأسي. قررت ألا أبكي ونجحت. اكتشفت أنه بإماكنك أن تمنع عينيك من البكاء لكن ليس بإمكانك أن تمنع الوخز الذي يصيبهما قبيل البكاء.
لا ادري كم من الوقت ظللت هكذا، منكسة الجبين مكسورة النفس، أملأ رئتي برائحة البيت ثم أفرغهما لأملأهما من جديد. أخيرا رفعت رأسي وجلت بنظري. لم يبد لي بيتنا بهذا الجمال من قبل. كل قطعة من أثاثنا بدت فجأة عزيزة للغاية على قلبي رغم أننا لم نختر ايا منها. فقد اختار الأثاث على ذوقه عامل ما - من شبه القارة الهندية على الأرجح - خصصه المستشفى الذي يعمل به أبي لتلك المهمة. الأباجورة التي احترق مصباحها قبل أسبوعين، الأريكة التي سخرتُ كثيرا من لونها الأخضر المتعارض مع رمادية السجاد. المرآة التي شرختها بكرة القدم الشهر الماضي وعوقبت بمنعي من اللعب مع علي وأحمد لأسبوع طويل. حبي لبيتنا ملأ قلبي فجأة، وأوجعه.
عندئذ لمحته. لم أكن لأراه لولا موقعي غير المعتاد على الارض. غصن الشجرة الذي ضاع مني وفتشت عنه طيلة الاسبوع الماضي! ها هو ذا اسفل الخزانة. التقطت هذا الغصن ذات مساء عندما اصطحبني ابي لشراء الخبز من المتجر البعيد. كم لعبت به حينها! أمضيت النزهة وأياما بعدها ألهو به. فتارة كان سيفا مسلولا يحارب أعداء لا يراهم سواي. وتارة عصا كاوبوي، أو كاوجيرل بالأحرى، يفزع الحصان كي يسرع. وتارة جيتارا أعزف عليه دويتو مع مايكل جاكسون في تناغم ثنائي تام، بينما الجماهير الغفيرة تكاد تجن انتشاءً. أشعر الآن وكأن ليلة شراء الخبز تلك حدثت قبل قرن كامل.
مددت يدي وسحبته من تحت الخزانة. أراحتني خشونته. ابتلت عيناي لكنني لم اسمح للدموع بالانهمار. لدي تكنيك لا يخطئ: أرمش بعيني سريعا، أرمش ثم أفتح عيني قدر الامكان. أكرر هذا إلى أن يجفف الهواء نداوتهما. لو لم يبتل خداي لا أعتبر قد بكيت، صح؟ يجب ان اظل متماسكة وإلا سينال مني الظلام الليلة وأنا وحدي.
جعلت اعد النتوءات على الغصن. اثنان وعشرون نتوءا وأنا مغمضة العينين كبائع البَنَك  الضرير الجاثم دوما أمام باب المدرسة. فتحتهما وأحصيت ثانية: خمسة عشر فقط! ربما وأنا ضريرة أحصيت بعضها مرتين.
بجوار الشباك كان كوب أبي في مكانه المعتاد. يشرب أبي الماء كل صباح وهو يقرأ الجريدة "في نور ربنا". أتعبني الجلوس فقمت إلى الشباك، أمسكت بالكوب الفارغ ونظرت فيه. لا أدري عما كنت ابحث. عن أبي بداخله؟
نظرت من شباكنا الذي يطل على بوابة البناية. داهمني فجأة يقين بأن أمي سترجع. ستعود لتأخذني معها. أو ربما ستعود لتبقى معي ترعاني بينما يسافر أبي وحده. سيشرق داخلها هول ما فعلت. ستوبخ أبي: يا ويلنا! ما الذي فعلناه؟ كيف تركنا رانيا وحدها؟ في أي لحظة الآن ستظهر عند البوابة، بينما أنظر من الشباك ستأتي راكضة، لاهثة، تبكي وتتطلع لشباكنا وتناديني. سامحيني يا رانيا! سامحيني يا ابنتي. وعرفت في قرارة نفسي اني سأسامحها فورا. لا بأس يا امي. المهم انك هنا الآن، أنك لم تتركيني. لم تتركيني. نظرت للكوب الذي لا يزال في يدي فإذا به الآن يحوي قيراطا من الدموع. فتحت الشباك وأفرغت الكوب. نثر النسيم عبراتي فوق عشب شارعنا المتكسر.
ولكن مهلا! كيف فاتني أمر بديهي كهذا؟ ألا يمكن ان يكون والداي في المطار الى الان؟ متى حدث كل شيء؟ متى سمعا بالحادث؟ ومتى تقلع الطائرة الى مصر؟ علمت فجأة ما يجب علي فعله. ركضت إلى غرفتي وللمرة الثانية في نفس اليوم جلبت حقيبة وألقيت فيها بملابس عشوائية من الخزانة. وضعت ايضا ٣٨ ريالا هي مدخراتي من مصروفي عبر الشهور. سأنزل من فوري وأذهب للمطار. سألحق بهما وأصحح هذا الخطأ الشنيع.
جريت نحو الباب فإذا بالجرس يدق. يا لسوء حظي. هذه بكل تأكيد طنط سعدية تستعجلني للعودة. لماذا لم تخطر لي فكرة الهرب مبكرة بدقائق فقط؟ بدقيقة واحدة؟ لكن إلهاما سطع في عقلي من حيث لا أدري: سأتظاهر بحاجتي لشراء غرض ما من المتجر بالأسفل. شيئ طلبته المعلمة اليوم.
أخذت الغصن من حيث تركته عند الشباك. قررت أنه ذاهب معي. فتحت الباب وجمدني السرور لحظتين. ثم ابتسمت لأول مرة في يوم طويل.
سيظل هناك "أمل" في هذه الحياة.


يتبع

Comments

  1. كم انتي رائعة

    ReplyDelete
  2. The story is so captivating! I like your style of writing. This story is really promising. Well done Nouran.

    Mouna Ba

    ReplyDelete
  3. قصة جميلة جداً و مشوقة أحسنتِ بجعلها على حلقات فيزداد الشوق لها

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة