شقة 6 - الفصل السابع - الأخير

-7-


يدهشني أن أتذكر تلك الحقبة فأدرك أنها لم تدم سوى أسبوع. فقد بدت حينها كعمر كامل. بمرور الوقت ألفت عادات سكان الشقة ٧. تعودت على سريري رغم غرابة موقعه في غرفة الطعام. وتعودت ايضا على لحافي الأبيض الذي لا يزينه سوى مربعين برتقاليين. لونهما الزاعق يبرز غياب اللون في بقية اللحاف. استعذبت الشاي في ثوبه الجديد، ولم يعد للماء طعم ولا رائحة.
أصبت ببعض الذعر عندما اكتشفت في اليوم الثالث - أو لعله كان الرابع - أنني أجد صعوبة في تذكر ملامح أمي وأبي. إلا أنني ما لبثت أن اعتدت حتى على هذا.
زارني عمي وزوجته مرة. كنت نسيت وجودهما في البلد لتباعد زياراتهما لنا. بدا واضحا أن الهدف هو زيارة طنط سعدية وزوجها، لا الحديث معي. سمعت جانبا من حديث زوجة عمي مع طنط سعدية
-حد يعمل كده؟ يسيبوا ضناهم بالشكل ده؟
-أنا عارفة يا مدام؟ زي ما هو ابنهم هي برضه بنتهم.
لم يزعجني ما سمعت بقدر ما أذهلني أن أفكارا كانت تختلج في نفسي دون أن أعيها تماما تجسدت الآن في تلك الكلمات المعدودة.
عندما شارفت الزيارة على الانتهاء عرضت زوجة عمي استضافتي بدلا عن طنط سعدية ثم - وبذات النَفَس - أردفت: "ولا خليها عندكو أسهل. وآدي الباص بيجيبها ويرجعها من المدرسة كل يوم".
 فهمت من حوارهم الذي لم أشرك فيه ان الاتصالات مستمرة بين أبي وأمي وبين عمي وطنط سعدية. آلمني كثيرا أن أمي لم تطلب الحديث معي، أن أبي لم يرد سماع صوتي.
أمضيت أياما بأكملها أتخيل رنين جرس الهاتف. تلذذت بنسج سيناريوهات انتقامية: أن تتصل أمي وتطلب الحديث إلي، حينها أرفض. أقول بلا اهتمام: قولوا لها رانيا مشغولة. بتذاكر. في سيناريو آخر يتصل أبي. لكني سأكون حينها مريضة جدا وطريحة الفراش. سأعجز عن الكلام. سيسقط أبي فريسة للشعور بالذنب، ولن يتمكن من سماع صوتي.
منحني كل سيناريو من تلك لذة هائلة لكنها تتبخر في لحظات. ينتابني بعدها يقين بأن الخطأ خطئي. فوالداي كانا سيتحدثان إلي بالتأكيد لو كنت أستحق. 
أخيرا عدت من المدرسة ذات يوم لأجد طنط سعدية تبتسم على غير العادة. نظرت لي قليلا ثم قالت:
-خلاص يا رانيا. باباكي جاي النهارده.
هكذا وببضع كلمات تحولتُ من لاجئة إلى انسان له كيان، ينظر الناس إليه.. بل ويبتسمون في وجهه. ملأني شعور دافئ بالسعادة وسألتها بابتسامة عريضة:
-وماما كمان؟
-لأ .. ماما هتفضل شوية في مصر.
تبددت ابتسامتي، لكن ليس كليا. فصحيح أن أمي لن تعود الآن، لكن سيعود أبي. وستعود الشقة 6.
استجبت فورا لتعليماتها بالتحمم وجمع حاجياتي ونقلها لبيتنا.
من شقتنا اختارت معي - أو بالأحرى اختارت لي - فستانا فاخرا لم يلبس منذ اشترته امي. أيدت اختيارها بحماس. من الآن فصاعدا سأتغير، ربما لو أرضيت والداي لن يتركاني ثانية، سأفعل أي شيء بما في ذلك ارتداء الفساتين. سألبس كالأميرة وأتصرف مثلها كذلك.
صنعت طنط سعدية بعد ذلك معجزة صغيرة: صففت شعري بمجفف الهواء فأصبح مطيعا مهذبا كشعر أمل.
عدنا إلى الشقة 7. في انتظار أبي لعبت مع علي وأحمد حرب الوسادات. أعرف طبعا أن الأميرات لا يلعبن هكذا، لكنها حرب واحدة فقط أتوب بعدها. أوقع علي وأحمد بي هزيمة ساحقة. أعلنت استسلامي واعتزالي للعب كالأولاد.
اعترض علي: في كرة القدم يعتزلون في قمة المجد، لا في لحظة الهزيمة!
لا بأس اذن، لنواصل الحرب إلى أن أعتزل في قمة المجد.
لكني لم أنتصر ولم ينتصر أي منا، بل أجهزنا على بعضنا البعض وسقطنا جميعا من فرط الإعياء. مكثنا هكذا حتى بدأ أحمد يقفز من فوق سريرهما الغريب ذي الطابقين إلى الأرض. بدا ما يفعل مثيرا جدا. انضمينا له، علي ثم أنا. أرسل الجيران في الشقة السفلى خادمتهما للشكوى من الضجيج. 
كم الساعة الآن؟ متى يأتي أبي؟
لا زلت أنتظر. ذهبنا للبلكونة ولعبنا لعبة من اختراعي أطلقتُ عليها: (من يصرخ أعلى). تصبب العرق على جبهتي من كثرة اللعب. جاءت طنط ونادتني غاضبة
-شوفي شعرك بقى عامل ازاي!
فوجئت أنه عاد مرة أخرى يتحدى الجاذبية الأرضية وفوجئت بها تعيد تصفيفه بالمجفف. من جديد صار منسدلا مشذبا. إنه اختراع عظيم ذلك المجفف. أهم اختراعات الانسان على الإطلاق. بعد أن انتهت أعطتني تعليمات واضحة بألا "أبهدل نفسي". امتثلت وجلست مؤدبة... بنت مثالية.
غيرت جلستي بحيث أواجه ساعة الحائط تماما. ثم غيرتها ثانية كي أواجه باب الشقة. قال علي:
هتفضلي قاعدة كده؟
رد أحمد: يللا نلعب مصارعة!
صاح علي: لا بلاش، لحسن ماما...مرر يده أمام رقبته كالسيف ثلاث مرات.
ضحكنا وفتحنا التلفزيون. جاء عمي وزوجته ثانية. هذه المرة سلما علي، ضحكا في وجهي وربتا على شعري الأملس. حتى أن عمي أشاد بفستاني وناداني ب"رورو". الجميع لطيف معي اليوم. الجميع في انتظار أبي في شقة 7. 
تأخر الوقت وحان موعد العشاء فحضرت طنط سعدية لثلاثتنا طبق علي المفضل: الفول بالطماطم. 
تأخر الوقت أكثر وأكثر ونحن ننتظر. انسحب علي وأحمد للنوم. صممت على البقاء مستيقظة ولم تعارضني طنط سعدية، فبعد معركة تصفيف شعري من حقها أن تستعرض مجهودها أمام أبي. لكنني لم أصمد للنهاية ونمت رغما عني امام التلفزيون.
في الحلم رأيت أبي يحملني كوليد صغير. جاءتني تفاصيل ساعديه واضحة في المنام: سمارهما، انقباض العضلات تحت الجلد، توزيع الشعر: غزير في الأعلى، خفيف قرب الكف. لكنني لما رفعت عيناي لوجهه الغالي لم أتبين الملامح.
استيقظت في الصباح - وياللعجب - في سريري في شقة ٦.
لا زلت ألبس الفستان الفاخر. مررت يداي على شعري فإذا به مصففا ناعما لا يزال. تذكرت ان ابي كان على وشك الوصول فهل هو الآن هنا؟ في شقة 6 معي؟ خرجت من الغرفة وسمعت صوتا في البيت. ها هو أبي، يقف في غرفته بالروب الأخضر كأنه لم يغادر أبدا، كأن الأسبوع الماضي كله لم يكن.
كان ظهره للباب فلم يرني. أردت أن أتكلم ولكني لم أعرف ماذا يقال عادة في هذه الظروف. لا يمكن أن أسعل مثلا لينتبه لوجودي. يجب أن أقول شيئا: شيئا ذا معنى. ولكن ماذا؟ كيف تحيي الابنة الأب الذي اختفى فجأة وعاد فجأة؟ هل أحمد الله على سلامته كأنه عاد من العمل ككل يوم؟ هل أذكره أني لم أعد في الحادية عشرة كما تركني، بل أتممت الثانية عشرة؟ أني كبرت عاما كاملا في أسبوع؟
اكتفيت بمراقبته وهو يخرج أشياء من الخزانة ويدخل أخرى. بدأت أتحرج من مراقبتي الصامتة له، وكأنني أتجسس عليه. تسربت إلي أصوات شقتنا، شقة 6، طقطقة الخشب، أزيز المكيف، قطرات الماء. استدار أبي. أشرقت الشمس في ابتسامته وفتح ذراعيه.
في رأسي أسئلة لن اسألها أبدا. في رأسي أسئلة لا أجد لها الكلمات.

تمت

Comments

  1. "في رأسي أسئلة لن اسألها أبدا. في رأسي أسئلة لا أجد لها الكلمات.
    "
    بهذه الكلمات الرائعة أختُتمت القصة و هى فى الحقيقة نهاية للقصة و بداية لتساؤلات كثيرة فى ذهن كل منا

    ReplyDelete
  2. يال هذه القصة... لاأعلم بم أصفها الآن حقاً ((لا أجد لها كلمات )) لكنني على كلٍ عشتها معكي لحظة بلحظة وتفصيلة بتفصيلة...لا أجد ما أقول الآن ..!! ربما السكوت الآن هو حقاً أبلغ من الكلام...تحياتي

    ReplyDelete
  3. نهاية القصة بها حبكة محكمة لا تقدر عليها سوى نوران سلام وفقكِ الله دائماً

    ReplyDelete
  4. قصة شيقة حقا تختلج القارئ لتجعل وكأنما كان هو الشخصية المحورية، تمثيل متمكن للأفكار خالجت خيالك يا أستاذة نوران.أحسنت حقا.

    ReplyDelete
  5. قصة رائعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. أسلوب رائع في الكتابة وسرد الأحداث بدقة وتفصيل وحرفية دون شعور القارئ بالملل. وما يميز هذه القصة

    تحديدا هي تلك التشبيهات للأشخاص والأشياء واستخدام طابع حكائي آخاذ وأسلوب فني ممتاز في تصوير المشاعر والأحداث. وطبعاً غير التعبيرات والتشبيهات الكثيرة الملئية بروح الفكاهة في مواقف مختلفة. سلمت يداك وقلمك أستاذة نوران على هذا العمل الأدبي المميز، بالتوفيق والنجاح دائماً.

    ReplyDelete

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة