شقة 6 - الفصل الثاني

-2-


طنط سعدية، التي تقطن شقة 7 الملاصقة لنا، لم تكن هي الاخرى من شخصياتي المفضلة. قد يجعلني هذا أبدو غير اجتماعية، أو سايكوباتية كما يقول أبي عندما يستعرض ثقافته الطبية أمام ربات البيوت من ضيوف أمي. لكنني من الشجاعة لاعترف ان قائمة شخصياتي المفضلة أقصر كثيرا من قائمة شخصياتي غير المفضلة.
الغريب في حالة طنط سعدية تحديدا أنها كان يجب أن تكون من أعز الناس إلى قلبي. فهي أم اثنين من أهم الناس في حياتي حاليا ومنذ زمن: علي وأحمد. تروي أمي إنني لما ولد علي وكنت أنا في الثانية ظننته لعبة. ولما ولد أحمد كنت في الثالثة وظننته أخي. تقول إنني بكيت لما احتفظت به أمه، وفجعت أنه لن ينام عندنا في البيت. العنوان الابرز لطفولتي كان وما يزال لعب كرة القدم في ساحة البناية معهما.
لسبب ما لم تكن طنط سعدية تحب امي ولم تكن امي تحبها. ربما كان السبب فارق السن، فأمي اكبر كثيرا. هذا الفتور بين الاثنتين انعكس على علاقة طنط سعدية بي. فبينما كانت تهش وتبش لرؤية مروة وبقية اطفال البناية كان وجهها يتخذ شكلا معينا لرؤيتي، شكلا يذكرني بمنظر المتجر الصغير أسفل البناية عندما يكون الباب مقفلا وعليه يافطة تقول: "مغلق". 
لكل ما سبق اندهشت لرؤية طنط سعدية بالباب.
-اهلا يا طنط. ماما مش موجودة.
-ايوة ما انا عارفة. ماما وبابا سافروا مصر النهارده. ومامتك وصتني قبل ما تسافر أخدك تقعدي عندنا.
-سافروا؟ سافروا ازاي؟ بالطيارة يعني؟
كنت أحاول التركيز كمن بوغت بلغز، بفزورة. نفس الشعور الذي انتابني اليوم عندما كتبت المعلمة كلمة مبعثرة وطلبت منا تخمين الكلمة الاصلية في دقيقة واحدة. نزلت حينها قطرة عرق على جبيني وأنا أسابق الوقت لأحول (وسمقا) لــ (قاموس). نفس ذلك الاحساس دهاني الآن. 
-اصل أخوكي تعب شوية ودخل المستشفى في مصر. فهم سافروا.
-يعني هيرجعوا النهارده؟
-لا طبعا النهارده ازاي؟ يمكن يرجعوا بعد يوم كده.. أو اتنين.
-..............
-يللا بس انتي تعالي وريني اوضتك فين عشان نجيب لك شوية حاجات.

لو قال لي أحدهم هذا الصباح إن طنط سعدية ستقف في غرفة نومي عصر اليوم، إنها ستطالع محتويات خزانتي وتسألني عن مكان ملابسي الداخلية، لنصحته بمراجعة الطبيب على وجه السرعة. لكن هذا المشهد الشاذ كان يتجلى حقيقةً أمام عيني الآن. شذوذه لخص شذوذ الموقف كله.
سافر والداي؟ هكذا؟ دون اخباري؟ خلاني ابي وحدي في كل هذا البلد؟ بهذه البساطة؟ وتركتني أمي في عهدة طنط سعدية؟؟
سحبت حقيبة سفر صغيرة من فوق الخزانة والقيت فيها بناء على تعليماتها بملابس نوم وملابس داخلية وفرشاة اسنان. التقطت حقيبة المدرسة وتأكدت أن المفتاح فيها ثم غادرنا الشقة.
متر واحد يفصل باب شقتنا عن باب شقة 7. لكن عبوره كان اشبه بالعبور لمجرة أخرى. لأول مرة اشعر بالوحشة في شقة علي وأحمد التي أمضيت فيها مئات الساعات من قبل. فاليوم انا لست هنا لالعب..اليوم ليس بمقدوري تجاهل الكبار وليس بمقدورهم تجاهلي. حتى الولدان نظرا الي وكأنهما يرياني لاول مرة. لم يوجها لي كلمة على مائدة الغداء، ولو فعلا ذلك لما أجبت.
- انت ما بتاكليش ليه يا رانيا؟ احنا متعودين نتغدى متأخر كده، بعد ما ارجع من الشغل. انما انتي تلاقيكي متعودة تتغدي بدري. كلي يا حبيبتي.
هكذا هو عم شفيق والد علي وأحمد: له من اسمه نصيب.
أرز طنط سعدية يبدو أبيض..تماما كالأرز الذي تطهوه امي. لكن التشابه ينتهي هنا، فلا الرائحة ولا المذاق يشبهان أرز امي في شيء. حتى كوب الماء في شقة 7 له طعم مختلف عن اللاطعم الذي يتسم به ماء بيتنا.
بعد أن فرغت العائلة من الأكل أرتني طنط سريرا في زاوية غرفة الطعام وقالت:
شوفي يا رانيا، حطي شنطتك تحت السرير ده. انتي هتنامي هنا الليلة دي. يللا تعالي عشان تعملي واجباتك.
أردت أن أجيبها لكن لساني تجمد. سأنام هنا الليلة؟ 
أخيرا نطقت: أنا نسيت كراستي في البيت يا طنط. هاروح اجيبها.
لن أنام هنا ولو تحول الجحيم لحلبة جليد!

يتبع

Comments

Post a Comment

أسعد بتعليقاتكم

Popular posts from this blog

قواعد اللعبة

أنشودة الكسل - بقلم نوران سلام

في فعل الكتابة